ريح الشرق.. تفسيرًا لظاهرة ترامب

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 27 سبتمبر 2018 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

صاحب مصطلح ريح الشرق، أو لنقل نبوءة ريح الشرق هو المفكر اليسارى المصرى الكبير الراحل الدكتور أنور عبدالملك.
ولا مفر من الاعتراف بأننا نسينا، أو أهملنا هذه النبوءة فى أحيان كثيرة، منذ أن أطلقها الرجل فى أواخر سبعينيات القرن الماضى، على الرغم من أن كاتب هذه السطور عاون المفكر الراحل فى الإعداد لأحد كتبه المهمة حول ريح الشرق، فى شتاء باريس القارس عام 1985، وكان بعنوان «تغيير العالم»، وصدر فى سلسلة عالم المعرفة الكويتية، بل إن كثيرين فى مصر اعتبروا الرجل حالما، أو واهما، واستبعدوا قدوم الصين كقوة كبرى تقود عملية تغيير العالم للخروج من التبعية الأبدية للمركز المهيمن فى الغرب الرأسمالى تحت القيادة الأمريكية.
كانت الحقائق فى أواخر سبعينيات القرن الماضى، تقول إن الصين مجرد دولة كبيرة من دول العالم الثالث، ولم يصدق إلا قليلون أن برنامج التحديثات الأربعة الذى أطلقه دنج شياو بينج سوف يحقق أهدافه كاملة، فى الصناعة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا والدفاع الوطنى، ويؤسس لظهور دولة عظمى جديدة من آسيا.
يتذكر الكاتب أيضا أنه سمع بأذنيه من السيد تشو رونجى رئيس وزراء الصين فى يونيو عام 1998 فى بكين أن بلاده لا ترى نفسها دولة كبرى، وإنما إحدى دول العالم الثالث كبيرة الحجم.
لكن ها هى عشرون عاما مرت على حديث تشو رونجى، وها هى أربعون عاما مرت على إطلاق تحديثات دنج شياو بينج الأربعة، وكذلك على إطلاق الدكتور أنور عبدالملك لنبوءة ريح الشرق، لنرى الصين تتأهب لدور القوة العالمية، وتقود فعلا ــ لا قولا ــ عملية مطولة لتغيير العالم.
ليست النجاحات الاقتصادية الهائلة للصين، محسوبة بمعدلات النمو، ونصيبها فى التجارة العالمية، وفائضها النقدى الضخم هى وحدها مقومات هذا الدور العالمى المتصاعد، وإنما يتوازى معها، وعلى نفس الدرجة من الأهمية رؤية محددة للعلاقات الدولية تقوم على «التشاور والتشارك والنفع المتبادل»... بصياغة السفير الصينى فى القاهرة فى كلمته فى الاحتفال منذ أيام بالعيد الوطنى لبلاده، أو بتعبير الدكتور عصام شرف رئيس وزراء مصر الأسبق، وعضو المجلس الاستشارى الدولى لمبادرة الحزام والطريق الصينية فإن الرؤية الصينية تجمع بين الأشياء وبين المعانى، وكما نعلم فالمقصود بالحزام والطريق هو إحياء طريق الحرير القديم حامل الصادرات الصينية إلى غرب آسيا وإلى أوروبا، ولكن هذه المرة برا وبحرا معا.
من حيث «الأشياء» أصبحت الصين ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، وأكبر دولة من حيث الصناعة وحجم تجارة البضائع، واحتياطى العملات الأجنبية، ويقترب معدل النمو السنوى فيها من 9,5%، بينما يزيد حجم تجارتها الخارجية بمتوسط سنوى يبلغ5،14 %
ومن حيث «المعانى» لم تعد الصين مجرد منتج أو مستهلك كبير للتكنولوجيا، ولم تعد أكبر متهم بالتجسس التكنولوجى فى العالم كما كان الحال من قبل، ولكنها تتفوق الآن – ومنذ عام 2016 ــ على الولايات المتحدة نفسها فى البحث العلمى الأصيل، وفى العلوم النظرية الأساسية، خاصة الفيزياء والرياضيات والهندسة، وأعترف أن هذه الحقيقة فاجأتنى شخصيا، وطبقا لدراسة شارك فيها البروفيسور الأمريكى ريتشارد فريمان من جامعة هارفرد فإن الأكاديميين الصينيين أصدروا وحدهم فى العامين الأخيرين أكثر من ثلث الإنتاج العالمى من البحوث العلمية فى هذه التخصصات الثلاثة، دون حساب ما نشره علماء صينيون يقيمون فى الخارج، وما ينشره العلماء الصينيون داخل بلادهم نفسها.
وتقول هذه الدراسة أيضا إن البحث العلمى فى الصين يتحسن كيفا، مع زيادته كما على نحو ما أشرنا، والمثال الأبرز هو أن 20% من المواد المنشورة فى مجلتى «نيتشر» و«ساينس» فى عام 2016 كانت لمؤلفين صينيين، والمجلتان هما أكثر المطبوعات العلمية احتراما فى العالم.
لذلك كان على الولايات المتحدة أن تأخذ مأخذ الجد – وبقلق شديد – خطة بكين المعلنة بالوصول إلى الاكتفاء الذاتى الكامل من الإنتاج المحلى لمكونات جميع السلع المصنعة فى البلاد، مما يعنى الاستغناء نهائيا عن استيراد هذه المكونات من المصانع الأمريكية، وهو ما يعنى زيادة هائلة فى العجز التجارى الأمريكى فى مواجهة الصين.
من هنا يقدم المطلعون عن كثب على طريقة التفكير الصينية تفسيرهم الخاص لإعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حربه التجارية ضد إمبراطورية السماء، وهى الحرب المندلعة على جبهتين: الأولى الرسوم الجمركية المرتفعة على صادرات الصين إلى الولايات المتحدة، والثانية العقوبات الأخيرة بذريعة شراء بكين أسلحة ومعدات حربية من روسيا، فحسب هؤلاء المطلعين فإن الهدف هو إبطاء أو إلغاء خطة الاكتفاء الذاتى فى الصين من المكونات الصناعية.
لعلنا الآن فهمنا أسباب إعلان ترامب كفره الصريح بالعولمة، وترويجه لسياسات الحماية الجمركية، ودعوته بقية دول العالم إلى إقامة هذه الأسوار الحمائية، فى خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ليس ما سبق هو فقط ما يخيف الرئيس الأمريكى وقوى اليمين فى الولايات المتحدة من الصين الجديدة، فالدولة التى كان رئيس وزرائها عام 1998 يقول إننا من العالم الثالث تنخرط الآن فى استراتيجية توسع عالمية (ليس بالمعنى الامبريالى الرأسمالى الكلاسيكى) ولكن على أساس التشاور والتشارك والنفع المتبادل، وذلك باتباع حزمة متكاملة من السياسات والمشروعات التنموية، فى منطقة بحر الصين والمحيط الهندى، والشرق الأوسط، وافريقيا ساحليا وفى العمق، وفى البحر المتوسط، بل وفى القطب الشمالى وغرب أوروبا، وإذا كان معروفا إن الصينيين أقاموا قاعدة بحرية تجارية وعسكرية ضخمة فى جيبوتى، وينخرطون فى تمويل وإقامة مشروعات للطرق والسكك الحديدية والطاقة والتعدين فى إفريقيا، ويحصلون على التسهيلات فى موانئ الخليج، ويتشاركون استراتيجيا مع روسيا وإيران، فسوف يكون مفاجئا لكثيرين أن شركة صينية وقعت اتفاقا لإدارة وتشغيل ميناء حيفا الإسرائيلى.. أكرر ميناء حيفا الإسرائيلى، وهو ما دفع خبراء استراتيجيين أمريكيين فى مؤتمر أمنى عقد فى تل أبيب مؤخرا إلى أن يصرخوا قائلين: «لقد فقدت اسرائيل عقلها»، والمصدر هنا هو صحيفة هآرتس الإسرائيلية نفسها، التى نقلت أيضا عن هؤلاء الخبراء الأمريكيين تساؤلهم بانزعاج: كيف يمكن للأسطول السادس أن يزور ميناء حيفا تحت الإدارة الصينية ؟!
بالمناسبة ألا يجب التعجب من حساسية الدول العربية ومنها مصر من إغضاب الولايات المتحدة بمزيد من الانفتاح والتعاون مع الصين، بينما لا تجد إسرائيل مثل هذه الغضاضة، رغم كل ما قدمته وتقدمه الولايات المتحدة لها سياسيا واقتصاديا وعسكريا؟!
عود إلى ريح الشرق لنتساءل عن مستقبل العالم بينها وبين ظاهرة ترامب وما يمثله.
بالطبع لا يستطيع أحد أن يتكهن بمجريات ونتائج هذا الصراع فى المدى القصير، خاصة إذا كان يتعين الانتظار لمعرفة ما إذا كان الحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه الرئيس الأمريكى سيفوز أو سيخسر فى انتخابات الكونجرس المقبلة، وما إذا كان الرجل نفسه سيكمل مدته الحالية فى البيت الأبيض؟ أم سيقال أو يستقيل؟ أو ما إذا كان سينتخب رئيسا لمدة ثانية أم لا، كما أن علينا الانتظار لنعرف مدى قوة التيار الذى يمثله ترامب فى الحياة السياسية الأمريكية، فى ضوء مكاسب وخسائر الأمريكيين أنفسهم من الحرب التجارية ضد الصين، لكن المؤكد على المدى الطويل أنه لن يشاد التاريخ أحد إلا كانت الغلبة لحركة التاريخ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved