استراتيجية البقاء.. كيف تفكر الجماعات الإرهابية فى إفريقيا؟

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الجمعة 27 سبتمبر 2019 - 11:20 م بتوقيت القاهرة

نشر مركز المستقبل مقالا للكاتب «حمدى عبدالرحمن» تناول فيه أسباب استمرار ظاهرة العنف والإرهاب فى إفريقيا إلى جانب تطور فكر الجماعات الإرهابية.

على الرغم من الضربات الموجعة التى تلقتها الجماعات الإرهابية العنيفة فى إفريقيا طوال العقد المنصرم، فإن الإعلان عن هزيمة الإرهاب بالضربة القاضية لا تزال بعيدة المنال. وربما يدفعنا ذلك إلى محاولة فهم العوامل التى أسهمت فى استمرار انتشار ثقافة العنف والتجنيد للحركات الإسلامية الجهادية فى أفريقيا، ولا سيما مناطق بحيرة تشاد والقرن الإفريقى. صحيح أن ثمة مؤثرات تاريخية ترتبط بتطور الخطاب الإسلامى فى العالم العربى ومنطقة جنوب شرق آسيا، مثل قضايا: «الجاهلية»، و«الحاكمية»، و«الفرقة الناجية»، بالإضافة إلى تحولات الواقع السياسى والاقتصادى فى الشمال العربى الإفريقى تحديدًا، لكن العوامل المحلية الأفريقية تمثل الركيزة الأهم والأبرز فى التفسير، وعليه فإن أسباب النزوع الراديكالى العنيف فى أفريقيا ترتبط بقضايا: غياب الدولة الوطنية، وتفشى الفساد، والتهميش الاقتصادى والاجتماعى، وانتشار السخط العام بين جيل الشباب، والانقسام الفكرى بين المدارس الإسلامية، وغيرها. ولعل ذلك التحليل يصطدم بحقيقة طبيعة «الإسلام الإفريقى» إن صح التعبير الذى يعد أكثر تسامحًا وقبولًا للآخر نظرًا لارتباطه الشديد بتقاليد الأخوة الصوفية مثل القادرية والتيجانية.
وقد مثّل إسلام الغرب الإفريقى ذى النزعة الروحانية الصوفية دائمًا حائط سد منيع ضد أفكار الغلو والتطرف، بيد أن عمليات الحداثة والتحولات السياسية التى شهدتها كثير من الدول الأفريقية فى أعوام التسعينيات قد فتحت الباب واسعًا أمام مؤثرات فكرية وأيديولوجية مستوردة. عندئذ تسللت جماعات سلفية عديدة إلى داخل هذه الدول تحت اسم الإحياء الإسلامى، ما أدى إلى اصطدامها بكلٍّ من الفكر الصوفى السائد ومؤسسات الدولة «العلمانية» سواء بسواء. ولا شك أن هذا الانقسام الدينى والأيديولوجى قد مثّل حاضنة خصبة لظهور التيارات الدينية المتشددة والعنيفة فى منطقة الحزام الإسلامى الكبير فى الساحل والغرب الإفريقى.
وفى ظل عولمة الظاهرة الجهادية العنيفة فقد أسهم كل من تنظيم «القاعدة» و«داعش» فى توفير الدعم الأيديولوجى والمادى لجماعات إسلامية محلية فى الفضاء الإفريقى. وطبقًا لمؤشر الإرهاب العالمى فى نهاية عام 2018، ‏ُتعد كل من «حركة الشباب المجاهدين» وجماعة «بوكو حرام» ضمن المجموعات الإرهابية الأربع الأكثر دموية فى العالم. وقد استطاعت هذه الجماعات الإرهابية تبنى استراتيجيات براجماتية أكثر قدرة على البقاء من خلال الانخراط فى شبكات الجريمة المنظمة، واستغلال الروابط مع السكان المحليين عبر علاقات النسب والتجارة تارة وعبر التهديد والقمع تارة أخرى. ولقد استفادت هذه التنظيمات الإرهابية يقينًا من غياب الدولة، وضعف نظم المراقبة على الحدود، بالإضافة إلى تنامى مشاعر السخط ضد الأنظمة الحاكمة بين السكان المحليين، فضلًا عن انتقائية استراتيجيات مكافحة الإرهاب الدولية، وتضارب مصالح الأطراف المشاركة فيها.

من الأيديولوجية إلى الإجرام
انطلاقًا من خبرة الأصولية الجهادية المتطرفة المطالبة بتحقيق مثاليتها الدينية من خلال دولة الخلافة فى الواقع الإفريقى المأزوم، نستطيع أن نشير إلى مصادر ثلاثة تفضى ‏إلى العنف الدينى:
أولها فكرة الخلاص من المجتمع الفاسد انطلاقًا من رؤية مثالية تذكرنا بأفكار «السهروردى» ‏فى كتاباته عن «المظهر الأعظم» الذى يفسره المتصوفة بالإنسان الكامل. فالمشهد الأعظم أفضل من جميع الأكوان حتى من العرش والجنان. هناك دائمًا دعوة للخلاص ‏والخروج من هذا العالم، والطريف أن فكرة الخلاص تلك استخدمتها أدبيات جيش الرب للمقاومة فى أوغندا ‏استنادًا إلى فهم معين للتقاليد المسيحية. الإنسان الكامل فى الفكر العربى والإسلامى يوجد ــ فى الأساس ــ من أجل المجتمع، فهو الذى يخلِّص المجتمع الإنسانى من المفاسد والنقائص والشرور، ويسير به إلى الكمال، فيكون مجتمعًا مماثلًا بحق لمجتمع السماء. ولهذا فقد اعتبره «الفارابى» «العضو الرئيس» فى مدينته الفاضلة، واعتبره «إخوان الصفا» ــ والفكر الشيعى عمومًا ــ أنه الإمام، ورأى فيه «ابن باجة» إنسانًا إلهيًّا.
أما المصدر الثانى للتطرف الدينى فهو يتمثل فى مفهوم الجماعة ‏المختارة، أو تلك التى تعتقد أنها ناجية، ولعل ذلك يبرر مظاهر عدم التسامح مع الجماعات الأخرى. فقد قامت «‏بوكو حرام» باغتيال أمير جوزا المسلم، وأحرقت عددًا من المساجد. ويتمثل المصدر الثالث فى الهوس ‏بفكرة معينة، والتى تدفع إلى تطوير مبادئ دينية بديلة من أجل التبرير وإضفاء الشرعية. وعلى سبيل المثال فإن فكرة الخلافة وعدم موالاة الكفار كان لها دائمًا مكانة محورية فى الفكر السياسى والدينى السائد فى غرب ‏أفريقيا منذ القرن التاسع عشر.‏
حاولت كل من «بوكو حرام» و«الشباب» بناء دولة الخلافة، وتطبيق الشريعة على الأقاليم التى تسيطر عليها. ففى منطقة حوض بحيرة تشاد، التى تضم الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا، تعد القدرة على البقاء والسيطرة الاقتصادية مهمة ‏لفهم عقلية جماعات الإرهاب من خلال تكتيكاتها العسكرية أو أيديولوجيتها. إذ يعمل تنظيم الدولة الإسلامية فى غرب أفريقيا‎ الذى يتزعمه «أبو مصعب البرناوى»‎، وهو فصيل من «‏بوكو حرام»، على كسب الدخل والتمويل من المجتمعات النائية فى مقابل تقديم عدد من الخدمات والسلع العامة للمواطنين‎ ‎لقد أقامت «داعش» من خلال احتلالها عشرات القرى فى بحيرة تشاد هياكل تشبه الدولة فى مناطق الحكم المحلى شمال شرق نيجيريا. وطبقًا للسكان المحليين، تتحكم «داعش» فى التجارة، وتفرض الضرائب وفقًا للشريعة الإسلامية، وتسهّل سبل المعيشة للمواطنين. أضف إلى ذلك تقوم بتوفير الخدمات، بما فى ذلك الأمن، والمراحيض العامة، والعيادات، ومياه الشرب من خلال حفر الآبار. كل ذلك يدفع إلى توفير حواضن اجتماعية وثقافية لجماعات الإرهاب فى المنطقة.
والعجيب أن العمليات العسكرية الحكومية الهادفة للقضاء على مصادر تمويل «داعش» أدت إلى تعريض سبل عيش المدنيين للخطر. ‏وقد شجّع هذا المواطنين على إيجاد طرق مبتكرة للتحايل على القيود الحكومية، وذلك بمساعدة «داعش» بالطبع. يقوم الصيادون وتجار الأسماك ومربو الماشية فى المناطق التى تسيطر عليها «داعش» بدفع الضرائب. وقد استطاعت «بوكو حرام» أن تقدم بديلًا أو متنفسًا لأولئك المحبطين من الحكومة النيجيرية. وبالفعل نجحت المجموعة فى استغلال الظلم والانقسامات الدينية والاجتماعية والسياسية فى إنشاء قاعدة دعم لها فى شمال نيجيريا.
فى المقابل، لجأت حركة «الشباب» بشكل متزايد، ولا سيما بعد الضربات الأمنية التى وجهت لها وفقدان السيطرة على كثيرٍ من أراضيها، إلى النشاط الإجرامى لتمويل أنشطتها. إن القاعدة الضريبية التى التزمت بالشريعة الإسلامية ونفذها الجناح الاستخباراتى للحركة تضاءلت كثيرًا بسبب فقدان الأراضى والجهد العالمى المكثف لتجفيف منابع تمويل الإرهاب. وقد بدأت حركة «الشباب» مؤخرًا فى ابتزاز زعماء العشائر ورجال الأعمال، بما فى ذلك المقيمون خارج منطقة «الشباب». وعلى الرغم من أن حركة «الشباب» فرضت منذ فترة طويلة ضرائب على الأراضى، وضرائب عينية على المزارعين الصوماليين ‏المفترض أنها تتوافق مع الشريعة الإسلامية؛ إلا أنها بدأت فى الآونة الأخيرة فى المطالبة بفرض ضرائب ثابتة دون مبرر شرعى. كانت الجماعة‏ ــ بشكل عام ــ تفرض ضريبة ربع العشر بنسبة 2.5٪ على المحاصيل، وضريبة ثابتة قدرها 50 دولارًا على كل هكتار من الأراضى. وفى حال رفض الالتزام بالدفع يتم ‏تهديد غير المتعاونين بالقتل وتدمير الممتلكات. وبعد تراجع تجارة الفحم التى تورطت فيها «الشباب» لجأت إلى استيراد السيارات المستعملة وتجارة الهيروين بعد تحويل طرق تهريب المخدرات عبر شرق أفريقيا.

البراجماتية ومستقبل الإرهاب
لا شك أن هذا التطور فى تفكير الجماعات الإرهابية يؤدى إلى خلاصات مهمة عند استشراف المستقبل. فاستراتيجيات البقاء لدى «الشباب المجاهدين» أدت إلى تراجع الأيديولوجيا كعامل محرك؛ إذ إن كثيرًا من أنشطة تمويل المنظمة الإرهابية اليوم ليس لها أساس يذكر فى الشريعة الإسلامية أو الأيديولوجيا الجهادية. على سبيل المثال، تجارة الهيروين لا تتعارض فقط مع المعتقدات الإسلامية، بل تتطلب أيضًا التواصل مع غير المسلمين الذين تعتبرهم المنظمة من أهل الكفر. وينطبق هذا أيضًا على نزعتها الاستبدادية المتزايدة وبعد نظامها «الضريبى» عن مؤسساتها الإسلامية المزعومة.
ونحن ــ إذن ــ أمام تحول من نظام أيديولوجى جهادى قائم على الشريعة ــ كما يزعمون ــ إلى نظام قائم على عددٍ من الأنشطة الإجرامية العنيفة. وربما يدفع ذلك فى سياق عملية التنافس والانقسام بين الحركات الجهادية العنيفة إلى خفوت الروح الجهادية لصالح الأنشطة الإجرامية التى تحافظ على بقاء واستمرار الجماعة، وفى المقابل يمكن التنبؤ بأن «داعش» سوف تستمر فى إعطاء الأولوية لأنشطتها الجهادية العنيفة على الأقل فى المدى القصير. وعليه، إذا استمر هذا الاتجاه البراجماتى على المدى الطويل، ولا سيما مع مزيد من الفعالية لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب، فقد تتوارى الشخصية الجهادية لجماعات الإرهاب لتحل محلها تدريجيًّا الشخصية الإجرامية العنيفة وكفى. ولعل هذا التحول ينال من سرديات الخطاب الجهادى العنيف، وذلك لمصلحة الاقترابات الناعمة لمحاربة الإرهاب.

النص الأصلي:من هنا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved