عبدالناصر فى اختبار الزمن

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 27 سبتمبر 2020 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

تحت عنوان «البحث عن الأفضل»، تساءل الصحفى البريطانى «آدم شروين» على صفحات «التايمز»، يوم (٢٣) فبراير (٢٠٠١): «من هى الشخصية الأكثر تأثيرا وإلهاما فى التاريخ؟».
لم تكن مصادفة أن ترشح أعرق الصحف البريطانية ــ مع مطلع القرن الحادى والعشرين ــ «عبدالناصر« و«مانديلا» مع الأديب الروسى «ليو تولستوى» للفوز بلقب «الشخصية الأعظم» فى العالم.
فى ذلك الوقت نظمت هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» استطلاع رأى لاختيار الشخصية البريطانية الأعظم.
استقر رأى البريطانيين على أنه «ونستون تشرشل» بوصفه الأكثر احتراما فى تاريخ الأمة.
كما اختار ــ فى استفتاء مماثل ــ (٣) ملايين ألمانى «كونراد إديناور» مستشار ألمانيا الفيدرالية بعد الحرب العالمية الثانية بوصفه تجسيدًا للعزة الوطنية.
نجاح الاستفتاءين أغرى المؤسسة الإعلامية العريقة لدعوة المشاهدين فى كل أرجاء المعمورة، لتحديد الشخصية الأكثر تأثيرا فى التاريخ.
لم يتم الاستفتاء بتدخل من جهات عربية حتى لا تأتى النتيجة لصالح «عبدالناصر».
ما نحتاجه ــ بالضبط ــ أن ندرك الحقائق، أو ألا نهدر ما يستحق الاعتزاز به دون التخلى عن حق النقد والاختلاف.
فى اختبار الزمن، نصف قرن بالكامل، تأكدت قوة حضور «جمال عبدالناصر»، كأنه لم يغب أبدا، ولا خفتت الحملات عليه يوما واحدا.
فى استهدافه حيًا وميتًا شهادة على قوة مشروعه وحجم تأثيره.
حسب تعبير شهير للإمام «أحمد بن حنبل» عندما اشتدت محنته: «بيننا وبينكم الجنائز».
كانت جنازته بحجمها الاستثنائى تأكيدا لا يخطئ على عمق تجربته وإلهام مشروعه.
فى ذلك اليوم البعيد بكت مصر، كما لم يحدث من قبل ولا من بعد.
فاضت المشاعر الحزينة على ضفاف النيل، ومن بين الجموع الحزينة المتدافعة علا نشيد «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين»، لا ألفه شاعر ولا لحنه موسيقار.
ترددت نبوءة فى هتافاتها: «يا جمال يا عود الفل.. من بعدك هنشوف الذل».. وقد كان.
على مدى نصف قرن من رحيله كان مستلفتا طغيان صورته حيث مصداقية الرؤية فى اختبار الزمن.
عند كل انعطافه تستدعى صوره إلى الميادين، كما حدث فى انتفاضة الخبز (1977) وثورتى «يناير» و«يونيو» وفى كل الاحتجاجات التضامنية مع القضايا العربية التى عمت البلد.
فى سنوات يوليو أطلق أوسع عملية حراك اجتماعى نقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها، كما تصدر مشهد حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى وأفريقيا ملهمًا العالم الثالث كله.
قيمة «عبدالناصر» الحقيقية أنه كان يصدق نفسه ويصدقه الناس ونزاهته الشخصية كرّست صورته فى التاريخ، غير أن التناقض كان فادحًا بين اتساع المشروع وضيق النظام.
ثغرات نظامه أفضت إلى هزيمة مروعة فى يونيو (1967).
لماذا خرجت الملايين تطالب ببقاء القائد المهزوم؟
إذا قيل بالادعاء أن الأمر كان مصطنعا، فماذا يمكن أن يقال عن خروج العاصمة السودانية الخرطوم لاستقباله بحفاوة لا نظير لها إثر الهزيمة مباشرة.
إنه قوة المشروع وما حققه من تحولات جوهرية فى بنية المجتمع وما خاضه من معارك أضفت على مصر هيبة القيادة وما أطلقه من أحلام كبرى لم يكن يسيرا التنكر لها.
ثم إنها الوطنية المصرية التى أدركت فى لحظة السقوط إنها مقصودة بذاتها.
أثبتت الأحداث فيما بعد أن الرهان على «عبدالناصر» كان فى محله.
أعاد بناء القوات المسلحة من تحت الصفر، وامتلكت مصر أقوى جيش لها فى التاريخ الحديث، تجاوز حجمه المليون جندى ــ أغلبه من خريجى الجامعات المصرية.
لم يكن التفويض الاستثنائى الذى منح لـ«عبدالناصر» شيكًا على بياض، فقد خرجت مظاهرات طلابية عام (١٩٦٨) تندد بالأحكام المخففة على التقصير الفادح لقادة سلاح الطيران فى حرب يونيو.
ماذا كان يمكن أن يحدث إذا انقضى شأن «عبدالناصر» يوم التنحى؟
التاريخ لا يعرف الأسئلة الافتراضية غير أن الهزيمة تبدأ فى «الإرادة».
فى اللحظة التى أمم فيها «الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية»، لامس عمق الوطنية المصرية وكبرياءها الجريح.
وفى اللحظة التى أعلن فيها من الجامع الأزهر الشريف نداء المقاومة «سنقاتل»، دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وألهم حركات التحرير فى العالم الثالث.
عندما ولدت زعامته فى أتون حرب السويس مضى قدمًا فى بلورة مشروعه، وأية ثورة بلا مشروع لا تقدر على أية مواجهة ولا تصنع أى إلهام.
قوة «عبدالناصر» الكامنة فى مشروعه السياسى العريض لا فى ثغرات نظامه القاتلة.
حاكم نظامه بأقسى ما يمكن تصوره من عبارات، لم يكن مستعدًا أن يسامح نفسه على أنه لم يحسم الأوضاع المختلة فى القوات المسلحة قبل أن تقع الواقعة، أو أن يتسامح مع أسباب الهزيمة.
كان من رأيه كما سجله فى محاضر رسمية، أن النظام الحالى استنفد مداه ولا بد من نظام جديد.
«.. إن لم نغير نظامنا الحالى سنمشى فى طريق مجهول ولن نعلم من يستلم البلد بعدنا».
كانت شجاعة المراجعة إحدى تجليات عظمة الشخصية.
فى أعقاب حرب أكتوبر (١٩٧٣) بدا أنه قد حان الوقت وتهيأت الظروف للإعلان عن توجهات جديدة وبناء نظام آخر على أنقاض إرث «عبدالناصر» وتوجهاته وسياساته.
«أطلقوا ألسنتهم فيه على اعتبار أنه كان سبب الهزيمة بينما السادات سبب النصر، وبعد أن كانوا يهاجمونه ضمنًا فى حملتهم على مراكز القوى أصبحوا يهاجمونه شخصًا، وعينًا، وتاريخًا، وإنجازات وأصبح فى قفص الاتهام كل شيء قاله أو فعله وتدفقت كتب ومقالات تعفى الاستعمار وإسرائيل من مسئولية تخريب مصر، وتلقيها على عاتق الإصلاح الزراعى، والسد العالى، ومجانية التعليم، ومحاربة الاستعمار، والتطور الصناعى، والتحول الاشتراكى.. إلى آخر هذه الجرائم الفادحة!».
كان ذلك توصيفًا للحملة وضراوتها كتب عام (١٩٧٥) بقلم رئيس تحرير مجلة «روزاليوسف» «صلاح حافظ»، وهو واحد من أكثر الصحفيين موهبة وكفاءة فى تاريخ الصحافة المصرية الحديثة.
فى مساجلات «يوليو» والدفاع عنها لم يتخلف كاتب واحد له قيمة وتأثير فى إبداء موقفه، كـ«أحمد بهاء الدين» صاحب مقولة «موتوا بغيظكم» و«كامل زهيرى» بعبارته الشهيرة «عبدالناصر أقوى من الهزيمة والسادات أضعف من النصر».. ودخل «محمد حسنين هيكل» إلى قلب المعركة بكتابه «لمصر لا لعبدالناصر» حتى لا يُقال «إن كل رجاله خانوه».
بتوصيف الدكتور «يونان لبيب رزق» لـ«هوجة المذكرات»، التى تصدى لكتابتها فى السبعينيات من لم يسمع عنهم من قبل وأسندت إلى أصحابها أدوارا بطولية لم تحدث، فإنها «ظاهرة لم تعرفها مصر على هذا النحو الواسع من قبل».
«لأن ما تم فى عهد عبدالناصر كان كبيرًا، فقد كان من الطبيعى أن يجيء رد الفعل بحجم الفعل، وأن تُشارك جبهات عديدة فى ضرب الحقبة الناصرية» ـ كما فسر الظاهرة.
«لن يتركونى أبدًا».
كانت عبارته قاطعة، وهو يتوقع أن يلاحقوه حتى ينالوا منه «قتيلا، أو سجينا، أو مدفونا فى مقبرة مجهولة».
كان يُدرك أن القوى التى يحاربها سوف تحاول الانتقام، وأن الانتقام سوف يكون مروعا.
بدت الكلمات ثقيلة على الابن الصبى، وهو يستمع إليها ذات مساء من شهر ديسمبر (١٩٦٩) عند ذروة حرب الاستنزاف ـ كما روى لى نجله الأكبر «خالد عبدالناصر».
بقدر ضراوة الحملات المتصلة عليه تأكدت قوة مشروعه وإلهامه فى اختبار الزمن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved