رهانات استنزاف الدولة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 28 أكتوبر 2013 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

المعلومات المتواترة تشى بأموال تتدفق وصفقات سلاح تجرى لإنهاك الدولة المصرية وجرها إلى حرب طويلة مع الإرهاب تستنزف عافيتها وتعيد صياغة المشهد المصرى من جديد.

فى ندوة جرت وقائعها الخميس (١٧) أكتوبر الجارى احتضنها المعهد السويدى للسياسة الخارجية فى ضاحية «سولنا» بالعاصمة استوكهولم عن مرحلة ما بعد «بشار الأسد» والسياسات التى يتوجب على الاتحاد الأوروبى اتباعها، طرح سؤال شائك خارج سياق موضوع الندوة على السفير الألمانى فوق العادة «فولكار وينزل»: «هل رفضت ألمانيا طلبا قطريا بشراء صفقة أسلحة لصالح جهة غير رسمية فى شمال أفريقيا؟».

باحثون من أصول مصرية شدتهم أجواء الترقب التى سبقت إجابته وخطورة ما ينطوى عليه السؤال من معلومات يناقشها أوروبيون فى ندوة مفتوحة.

بعبارة: «لا تعليق» أوقف الدبلوماسى الألمانى سيل التساؤلات المحتملة فى ملف ملغم، وهو بطبيعة مهامه فى الخارجية الألمانية كممثل شخصى لوزيرها فى العالم العربى على إلمام بالملف وأسراره وكواليسه ويدرك أن هناك ما يلزم تعهد «الدول» التى تستورد أسلحة من بلاده استخدامها طبقا للقانون الألمانى.

لم يؤكد ولم ينف المعلومات المتواترة والإجابة المعلقة تطرح بدورها أسئلة أخرى حول رهانات استنزاف الدولة المصرية وتعطيل فاعليتها.

الرهانات لها أهدافها فى تغيير معادلات القوة والعودة إلى ما قبل (٣٠) يونيو والحماقات تتبدى فى إنكار الحقائق والصدام معها.

تظاهرات أنصار جماعة الإخوان المسلمين بصداماتها التى لاتتوقف رغم خفوت زخمها تنطوى على هذا النوع من التفكير وطول النفس فيها وراءه إدارة ما للعبة كلها.

للرهانات أهدافها فى منع السلطة الانتقالية من أن تضع أقدامها على أرض أصلب، أو أن تمضى فى خريطة طريقها المعلنة.

تعطيل الاستفتاء على الدستور معركة والانتخابات البرلمانية معركة أخرى قد تختلف وسائلها والانتخابات الرئاسية معركة ثالثة أقرب إلى «حياة أو موت» إذا ما ترشح فيها وزير الدفاع «عبدالفتاح السيسى». تعطيل خريطة الطريق هو الهدف الجوهرى من رهانات استنزاف الدولة، فالإخفاق فى الاستحقاقات الانتقالية يفقد سلطتها شرعية دورها ومبررات وجودها، والمضى فى الخريطة نفسها خطوة بعد أخرى، أيا ما كانت تعثراتها، يفضى إلى شرعية دستورية جديدة تحيل المساجلات حول طبيعة تدخل الجيش وما إذا كان انحيازا لإرادة شعبية أم انقلابا عسكريا إلى كتب التاريخ وشهاداته.

فى رهانات استنزاف الدولة شىء من الثأر السياسى وشىء آخر من حماقة الأداء العام، لكن اللعبة تتجاوز فى حقائقها ما يظهر على مسارحها الملتهبة من ثأرات وحماقات إلى محاولة تقويض التحولات التى جرت بعد (٣٠) يونيو والعودة إلى ما قبل خطوطها، أو الجلوس على مائدة تفاوض بشروط أفضل مع الدولة وجيشها للوصول إلى حل سياسى يعترف بـ(٣٠) يونيو كإرادة شعبية ويصم ما تلاه من تدخل عسكرى فى (٣) يوليو بالانقلاب. فى الكلام نفسه تناقض فالإقرار بأن (٣٠) يونيو إرادة شعبية يستدعى اعترافا آخر بأن (٣) يوليو انحيازا لها. وفى التناقض أزمة تصورات تغيب عنها المراجعات الضرورية لما جرى وكيف اتسعت فجوات الكراهية مع الجماعة وخسرت ظهيرها الشعبى؟. قد تكون السلطة الانتقالية فقدت جانبا من رصيدها لكن لا أحد ممن ينتقدونها بضراوة يتمنى عودة جماعة الإخوان المسلمين للحكم مرة أخرى، فقد تعرضت لانكشاف فادح مرتين متتاليتين بفشلها المزرى فى تجربة الحكم.. وبالصورة التى بدت عليها بعد خروجها منه.

خسرت فى الأولى صدقيتها وخسرت فى الثانية رشدها ووضعت فى الحالتين مستقبلها بين قوسين كبيرين. فى رهاناتها على استنزاف الدولة ضغط على أعصاب البلد، والإخفاقات فى مستويات الأداء العام تنتقل مسئوليتها إليها وتمنع أية احتمالات لها طابع الجدية والتأثير فى التضامن مع ضحاياها، وهذا واجب أخلاقى وسياسى، لكنه يبدو ملغما إلى حد كبير بسبب اعتداءات أنصارها على مثقفين وشخصيات عامة وصلت فى حالة المتحدث الإعلامى السابق لجبهة الإنقاذ «خالد داود» إلى الشروع فى قتله. الاعتداءات بمناخها انتقلت إلى مطادرة مثقفين مصريين فى محافل دولية على ما جرى مع الروائى «علاء الأسوانى» فى ندوة بمعهد العالم العربى بباريس.

فى الصور حماقات فاشية والناس تتضامن مع الضحايا لا مع الذين يهددون بحرق البلد وتعطيل الدولة وإغلاق الجامعات ويروعونهم فى الطرقات العامة.

فى الرهانات غطاء سياسى للعنف والإرهاب الجارى فى سيناء، فالتظاهرات تتبنى هتافاتها دعما ملتبسا للجماعات التكفيرية وتجريحا صريحا للمؤسسة العسكرية. قد تعزى الهتافات بما تنطوى عليه من سوقية لا تتسق مع ما تدعيه الجماعة من التزام بالخلق الإسلامى إلى روح ثأر سياسى بعد إزاحتها من الحكم، لكن الثأر السياسى لا يبرر على أى نحو التصادم مع مقتضيات سلامة الوطن المصرى. بصورة واضحة تمركزت الجماعات الجهادية والتكفيرية فى سيناء، ورغم الضربات المتتالية التى تلقتها فإن الحرب معها قد تطول، وبشكل آخر وضعت أقدامها فى الإسماعيلية بالقرب من ظهيرها الصحراوى ووجهت ضربات مضادة للجيش.

يومئ العثور على مخزن لصواريخ مضادة للطائرات ومنصات إطلاق هاون وأسلحة متقدمة أخرى بالقرب من مطار انشاص الحربى بمصادفة حريق فى المكان إلى تأهب وتخطيط لحرب طويلة فى الداخل المصرى تنهكه فى دواماتها وتعطل قدرته على استعادة عافية اقتصاده أو عودة معدلات السياحة إلى ما كانت عليه.

الأهداف ذاتها تتبناها الجماعة بوسائل أخرى.

فى الرهان على استنزاف الدولة استنزافا آخر للجماعة وفرصها فى مصالحة مجتمعها، فلا يمكن لجماعة ما أن تتطلع لدمجها مجددا فى الحياة السياسية وأن تسوغ ما تراه مظلوميتها أمام شعبها وهى تحرض على العنف والإرهاب بتصور أن الحرب على الجيش قد يطرح سؤاله: إلى أى مدى نحتمل هذا النوع من الحرب وسقوط ضحايا فى صفوفنا؟

هذا الرهان أقرب إلى ألعاب نار تحرق لاعبيها ونتائجها تسوغ قمعا لأعضائها بتهم الإرهاب والانخراط فيه.. بينما التصعيد ضد الجيش يعمق من وحدته الداخلية وفواتير دم ضباطه وجنوده تفضى إلى تشدد المؤسسة كلها مع الجماعة، كما أن استهداف الأمن بضباطه وجنوده ومقاره يفضى بدوره إلى انسجام أكبر بين المؤسستين العسكرية والأمنية اللتين تجاوزتا على نحو لافت الحساسيات التاريخية القديمة بينهما. فى الصدام مع الدولة حالة انتحار مؤكدة، فمن الجنون تصور أن تتولد عن الصدام العنيف مع مؤسساتها احتمالات عودة إلى حكمها.. والسعى لاستنزافها يتصادم مع سؤال جوهرى: «إذا كنتم فى صدام مع الجيش والشرطة والقضاء والإعلام فكيف تتوقعون أن تعودوا للحكم مرة أخرى؟».. ويتعقد ما هو معقد بسؤال آخر عن غياب الظهير الشعبى وفجوات الكراهية المتسعة مع الجماعة: «كيف تتوقعون العودة إلى حكم بلد أنتم فى صدام مع مجتمعه؟».

الخطير فى رهانات استنزاف الدولة أنها تستدعى تفكيرا مضادا يعتمد «القبضة الأمنية» نهجا وأسلوبا وتداعياتها تنتقص بطبيعتها من الحريات العامة وتضع ألغاما ليس من السهل تجاوزها أمام استحقاقات التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر. الخلط الفادح ما بين التظاهرات السلمية والغارات المسلحة أو ما بين صراعات السياسة وشتائم الحارات الشعبية ينتهى باللعبة كلها إلى تكفير الرأى العام من حق التظاهر كله وإلى شيوع روح عامة تكفر بالقدر ذاته من الفكرة الديمقراطية كلها، كأن مصر لم تقم بثورتين فى عامين ونصف العام وقدمت فواتير دم مفتوحة للوصول إلى دولة ديمقراطية حديثة.

فى الدعوات المتواترة لتغيير وزير الداخلية اللواء «محمد إبراهيم» تعبير عن مزاج عام يميل إلى التشدد مع الجماعة واتباع كل ما هو استثنائى للتخلص من صداعها، وفى المزاج العام شىء من الضجر بما يطلق عليه «رخاوة الحكومة» ويدها المرتعشة، وهو ما يحاول أن ينفيه رئيسها الدكتور «حازم الببلاوى» مرة بعد أخرى والسؤال الصعب أمامه: «كيف تقوم الحكومة بواجبها فى حفظ الأمن ومواجهة العنف والإرهاب وأن تحتفظ فى الوقت نفسه بتطلعات التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر؟».

للسؤال ضروراته فى استدعاء السياسة إلى منابرها والحوار إلى أصوله الأولى، فـ«الدولة الأمنية» قد تستدعيها حماقات الجماعة وعنفها المنهجى لكنها تأخذ من المستقبل تطلعاته ومن الأجيال الجديدة أحلامها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved