البحث عن الدستور

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 27 أكتوبر 2014 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

اقتضت بعض البحوث التى أقوم بها تدقيقى فى دلالة بعض النصوص الدستورية، لذلك فقد توجهت إلى موضع وثيقة الدستور الرسمية فى مكتبتى بالمنزل، ولم أجدها فى موضعها، ولا فى أى موضع آخر، وتضايقت لذلك كثيرا، فقد كانت حاجتى لها ماسة. وعندما استغرقت فى التفكير، وجدت أن الأمر فيما يتعلق بى ليس بالغ الخطورة. فمن ناحية كثرة قراءتى لها جعلتنى تقريبا أحفظها عن ظهر قلب، ومن ناحية ثانية تذكرت ما كان يقوله أساتذتى الذين تعلمت منهم القانون الدستورى، كانوا يميزون بين الدستور المكتوب المحفوظ فى وثائق رسمية، والدستور الحى الذى تترجمه ممارسات فعلية من جانب مؤسسات الدولة على أرض الواقع.

وكانوا يؤكدون أن الأهم من الدستور المكتوب هو الدستور الحى المعاش، والذى قد يتجاوز النص المكتوب على نحو لم يتصوره واضعوا الدستور، بتكييف هذا النص مع التطورات الاجتماعية والفكرية التى يعرفها وطن هذا الدستور دون أن يخرج عن المبادئ الأساسية له، وخصوصا ما يتعلق بالحقوق الأساسية للمواطنين.

وكان أساتذة القانون الدستورى يضربون المثل على ذلك بالنظام الحزبى فى الولايات المتحدة، فلم يذكره الدستور الأمريكى، ولكن الدستور الحى أوجد مؤسسة تسهل على المواطنين الأمريكيين ممارسة حقهم فى المشاركة السياسية الذى نص عليه الدستور المكتوب. بل الأعجب من ذلك أن هذا الدستور الحى قد يكون واقعا ملموسا فى دولة لا يوجد فيها أصلا دستور مكتوب، مثل المملكة المتحدة وحتى إسرائيل، ومع ذلك تخضع الممارسة السياسية فى كل منهما لقواعد عرفية ملزمة لا يخرج عنها أحد. فرئيس الوزراء فى كل منهما هو رأس السلطة التنفيذية ويملك حزبه الأغلبية البرلمانية، ومن ثم يقود السلطة التشريعية. لم يحدث فى أى منهما مع ذلك أن رئيس الوزراء قرر مثلا تأجيل الانتخابات البرلمانية إلى أجل غير مسمى خشية سقوط حزبه فى هذه الانتخابات، أو أنه قرر البقاء فى الحكم رغم الهزيمة فى الانتخابات أو أنه تجاهل أحكام المحاكم وذلك على الرغم من عدم وجود نص مكتوب يلزمه بذلك.

•••

هون على ذلك كثيرا وقلت مادمت أحفظ الدستور المعدل فى سنة 2014 عن ظهر قلب، فلعلى أجد نصوص هذا الدستور فى ممارسات مؤسساتنا السياسية، وهكذا جعلت أراجع فى ذهنى هذه المؤسسات، وأقارن ممارساتها بما جاء فى نصوص هذا الدستور، وبدأت بمؤسسة الرئاسة. قفز إلى ذهنى على الفور نص فقرة فى المادة 145 التى تقول أنه يتعين على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمة مالية عند توليه المنصب وعند تركه، وفى نهاية كل عام، وينشر الإقرار فى الجريدة الرسمية.

لم أذكر أنى قرأت شيئا من هذا القبيل فى أى من صحفنا، والتى كانت ستهلل للأمر باعتباره أول مرة فى تاريخ مصر التى يقدم فيها رئيس الدولة على الإقرار بما يملك. ولكن قلت إنه ربما مازال الوقت مبكرا، وأن رئيس الجمهورية المنتخب، وإن كان فاته عمل ذلك عند توليه منصبه، فربما يفعل ذلك وفق نص تلك الفقرة بنهاية العام. هذه قد تكون قضية تفاصيل، وعلى أن أتجنب القفز إلى استنتاجات، وأن أضع طبعى المتشائم جانبا وأنظر إلى ممارسات بقية المؤسسات، فهى لابد ملتزمة بالدستور المكتوب.

وهكذا بحثت عن سلطة التشريع ووجدتها فى يد رئيس الجمهورية الذى لا يكاد اسبوع يمر إلا وهناك قانون جديد أو تعديل لقانون قائم يصدره. وآخر تلك هى تعديلات على قانون تنظيم الجامعات وقانون الأزهر. ولم يكونا من الأمور الملحة التى لا تحتمل التأخير، وكان يمكن انتظار انتخاب مجلس النواب الجديد ليقضى فيهما. وهنا طرأ على ذهنى سؤال عن موعد انتخاب ذلك المجلس. ووجدت المادة 230 توجب بدء إجراءات انتخاب ذلك المجلس فى موعد لا يتجاوز ستة اشهر من تاريخ العمل بالدستور. مرت حتى كتابة هذه السطور أكثر من تسع شهور على العمل بالدستور ومع ذلك لا توجد أى إشارة إلى أن تاريخ هذه الانتخابات سيتحدد قريبا.

طبعا هناك تصريحات عديدة من جانب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بأن الانتخابات قادمة، وهناك إجراءات توحى بأن تلك هى النية بالفعل، ولكن خيال حكومتنا الذى لا ينضب يخرج بين الحين والحين بإجراءات إضافية يتعين الأخذ بها قبل تحديد موعد تلك الانتخابات، ولكن هذه الإجراءات تستغرق وقتا طويلا، مثل إصدار قانون بتقسيم الدوائر الانتخابية، وتصور كثيرون أن هذا القانون جاهز.

ولكن اكتشفت الحكومة ضرورة عرض مسودة القانون على لجنة حددت مهمتها بثلاث أسابيع، ويلزم عرضه بعد ذلك على قسم التشريع بمجلس الدولة، وقضاة مجلس الدولة صارمون. وربما يكتشفون فى مشروع القانون نواحى نقص تستوجب إعادته للحكومة مما يستغرق مزيدا من الوقت، كما قيل أيضا انه لا يمكن تحديد موعد الانتخابات دون استكمال جداول الناخبين. وهكذا لا يبدو أن وعد الرئيس بأن انتخابات مجلس النواب ستتم قبل نهاية العام الحالى سيتحقق. ويقول أنصار الحكومة من الإعلاميين الذين يجدونها دائما على حق فيما تفعل أنه لابد وأن هذه الانتخابات ستتم قبل انعقاد المؤتمر الاقتصادى لأصدقاء مصر فى شهر فبراير القادم.

لا أشكك فى نوايا الحكومة، ولكن أثق أيضا فى أن خيالها الخصب سيسعفها بحجة أو بعذر تقدمه للمؤتمر الاقتصادى لتبرر تأخرها فى إجراء الانتخابات. وطبعا سيقفز أنصار الحكومة هؤلاء للقول بأن نص المادة 230 الذى تذكرته لا يلزم الحكومة بإجراء الانتخابات خلال مدة الأشهر الستة بعد الموافقة على الدستور، ولكن سياق صياغة المادة يقطع بأن الهدف منها هو الإسراع بإجراء الانتخابات فى أقرب وقت ممكن، وليس اتخاذ نصها ذريعة للمماطلة فى تحديد موعدها وتأجيل إجرائها إلى أبعد حد ممكن.

•••

صرفت النظر عن ممارسات الرئاسة والحكومة وقلت فى نفسى لعل أعضاء الحكومة من الوزراء حريصون على الدستور. ولكنى وجدت وزير الإسكان يكثر من التصريحات فى الصحف عن مشروع بناء عاصمة جديدة لمصر، تساءلت ألن تبقى المدينة القاهرة عاصمة لمصر بعد كل هذه القرون وبعد كل ما كتبه عنها المرحوم الدكتور جمال حمدان، تأملت تصريحات الوزير هو يتحدث عن عاصمة إدارية ولكنها ستشمل مقار للوزارات ومجلس النواب والسفارات؟ ماهو الفارق إذا بين العاصمة الإدارية والعاصمة غير الإدارية؟ أليست العاصمة هى مقر الحكم؟ أو لا يمارس الحكم من خلال الوزارات ومجلس النواب؟ ألا يحتاج السفراء الاتصال بالحكومة؟ قلت فى نفسى إن وزير الإسكان مهندس، شأنه شأن رئيس الوزراء الذى لابد وأنه سمع تصريحاته. والمهندسون فى مصر مولعون بالعمل والإنجاز. هذا أمر حسن؟ ولكن هل يكون ذلك بتجاهل النص الصريح للمادة 222 التى تقضى بأن مدينة القاهرة هى عاصمة جمهورية مصر العربية؟

•••

لم يعد البحث عن تجاهل صريح من جانب الحكومة لنصوص الدستور مهمة شاقة، فهناك أيضا المادة 18 التى تكلف الدولة بأن تكفل استقلال الجامعات، ومازال رئيس الجمهورية ورئيس السلطة التنفيذية مشغولا باختيار أكثر من تسعين من عمداء الكليات بعد مرور أسبوعين على بدء العام الجامعى والذى جاء متأخرا عن موعده. وهناك المادة 73 التى تكفل للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات، وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية غير حاملين سلاحا من أى نوع بإخطار على النحو الذى ينظمه القانون، وأكدت المادة 92 أنه لا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها. وتذكرت أن فى السجون من عوقبوا على احتجاجهم سلميا على مخالفة قانون التظاهر للدستور لاشتراطه بين أمور أخرى أن يكون للشرطة حق الإذن بالمظاهرة، وليس فقط أن تخطر بها وهو ما يخالف نص المادة.

أزعجنى هذا التجاهل لكل هذه النصوص فى وثيقة دستورية لم يمر عام على دخولها حيز النفاذ ولكن الذى أزعجنى حقا هو سكوت الرأى العام عن هذا التباين الصارخ بين الدستور الحى والدستور المكتوب.

صحيح أن ثقافتنا فى مصر سواء لدى النخبة أو لدى المحكومين هى ثقافة لا تعير القانون اهتماما كبيرا بل يقال إن الهواية الأولى للمواطنين والحكومة هى انتهاك القوانين، ومع ذلك فمثل هذا التجاهل يلحق الضرر بالمواطنين والحكومة معا. الأولون تنتهك حقوقهم، والآخرون يعملون بدون رقابة ولا مشاركة حقيقية، ومن ثم يتنكبون الصواب على الأقل فى بعض ما يفعلون، إن لم يكن فى أهمه. ولنا فى إدارة الشأنين الأمنى والاقتصادى أكبر الدلائل على ذلك.

فكرت فى أن أتصل بأصدقائى فى لجنة إعداد الدستور لسؤالهم عما جرى لوثيقتهم على أرض الواقع، ولكن عدلت عن ذلك فلم أتصور أن لديهم جوابا على هذا السؤال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved