التاريخ السرى للعلاقات الإسرائيلية السودانية

من الصحافة الإسرائيلية
من الصحافة الإسرائيلية

آخر تحديث: الثلاثاء 27 أكتوبر 2020 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

نشرت صحيفة هاآرتس مقالا للكاتب Yossi Melman، تحدث فيه عن تاريخ العلاقات غير المتسقة بين إسرائيل والسودان إلى أن انتهى بهما الحال إلى تقوية العلاقات مرة أخرى، ووضح كيف أن رحلة التطبيع ليست سهلة... نعرض منه ما يلى:

اللقاء فى أوغندا بين رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو وعبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالى فى السودان، فبراير الماضي، هو مجرد فصل آخر للتاريخ المعقد بين البلدين. التاريخ الملىء بالتقلبات: عداء ونفعية، تهريب البشر والمؤامرات ومخازن الأسلحة، التحويلات المصرفية السرية، وقبل كل شىء: علاقة ملفوفة فى طبقات متداخلة من السرية.
يبدأ ذلك التاريخ فى النصف الأول من الخمسينيات. حينما كان السودان يفاوض بشأن استقلاله عن الحكومة البريطانية والسيادة المصرية التى بدأت منذ عام 1899.
خشى حزب الأمة المعارض فى السودان من استمرار الرئيس المصرى جمال عبدالناصر فى تنفيذ أيديولوجيته «القومية العربية» وطموحاته لقيادة إفريقيا والعالم العربى، مما يؤدى إلى عرقلة استقلال السودان من خلال التنسيق مع القوميين السودانيين الذين فضلوا الوحدة مع مصر.
التقى ممثلو حزب الأمة، بقيادة صادق المهدى ــ الذى أصبح بعد 30 عاما رئيس وزراء السودان ــ سرا فى لندن مع دبلوماسيين إسرائيليين، من بينهم مردخاى غازيت، السكرتير الأول لسفارة لندن. هناك سعى المبعوثون السودانيون للحصول على مساعدة دبلوماسية، وإذا أمكن اقتصادية، من إسرائيل، العدو اللدود لمصر.
فى يناير 1956، حصل السودان على استقلاله واعترفت به كل من المملكة المتحدة ومصر. وتم نقل مهمة الحفاظ على العلاقات السرية مع إسرائيل، والتى استمرت لبضع سنوات، من وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى الموساد.
منذ البداية، لعب نسيم غاون، وهو رجل أعمال إسرائيلى ــ سويسرى مولود فى السودان ــ دورا مهما فى تسهيل العلاقات بين إسرائيل والسودان، مع التركيز على العلاقات الاقتصادية. استفادت إسرائيل على مر السنين من استثمارات غاون وخبرته فى مجال السياحة والفنادق.
انقطع شهر العسل فى العلاقات بين البلدين فى نهاية الخمسينيات بسبب الانقلاب العسكرى وخداع ناصر اللذين جعلا السودان خصما لإسرائيل. حتى أن السودان أرسل وحدة عسكرية صغيرة لمساعدة مصر فى حرب الأيام الستة فى يونيو 1967، ولم تكن هناك مواجهات ثنائية، ولا حتى سرية، خلال العقد التالى.
***
مع وضع هذا الواقع فى الاعتبار، كررت إسرائيل القول المأثور القديم بأن عدو عدوى صديقى، وبدأت العمل على بناء علاقات سرية مع القوى المعارضة للحكومة السودانية. مثلا قام عملاء الموساد بقيادة دافيد بن أوزييل، المعروف باسم «طرزان»، بالتسلل إلى السودان فى عام 1969. كانت مهمتهم مساعدة قبائل جنوب السودان التى تقاتل ضد الحكومة المركزية فى الخرطوم.
باستخدام الممرات والقواعد الجوية فى أوغندا وكينيا، قام طيارو القوات الجوية الإسرائيلية بإلقاء الذخيرة والأسلحة لمساعدة قوات المتمردين التابعة للجنرال جوزيف لاغو، الذى سافر أيضا إلى إسرائيل والتقى برئيسة الوزراء جولدا مائير. وعلى الأرض، سار «طرزان» وفريقه، مع قوات لاغو، مئات الكيلومترات فى الأدغال، وقصفوا الجسور على النيل ونصبوا كمائن للجنود السودانيين.
انتهت الحرب الأهلية فى منتصف السبعينيات ــ لكنها لم تكن نهاية تدخل إسرائيل هناك. فبتعليمات من رئيس الوزراء مناحيم بيجن، قام الموساد وأفراد البحرية الإسرائيلية بتهريب اليهود الإثيوبيين إلى أرض الميعاد، باستخدام المعرفة والخبرة المتراكمة عن التضاريس اللتين اكتسبوهما أثناء مساعدة المعارضة فى الحرب الأهلية. ابتكروا خطة جريئة للغاية، والتى كانت فى النهاية على مرحلتين.
الأولى، بين عامى 1977 و1980 والتى تحمل الاسم الرمزى «عملية الأخوة»، استخدمت القوارب الإسرائيلية لإنقاذ اليهود الإثيوبيين الذين تم انتشالهم من ساحل البحر الأحمر السودانى. ولتعزيز العملية، قام الموساد ببناء منتجع غوص لم يعد له وجود الآن. مع تنكر عملاء الموساد كمدربين للغوص، كان المنتجع بمثابة مركز قيادة وتحكم. بهذه الطريقة تم إحضار 17500 يهودى إلى إسرائيل ــ ومع ذلك تم تحقيق ذلك بوتيرة بطيئة، ولم يكن بالإمكان زيادتها.
لذا فى عام 1981، التقى وزير الدفاع أرييل شارون سرا فى كينيا بالزعيم السودانى الجنرال جعفر النميرى. قام شارون، بمساعدة رجل الأعمال الإسرائيلى يعقوب نمرودى، والعميل السابق فى الموساد ديف كيمتشى بالتخطيط لتحويل السودان إلى مستودع للأسلحة المخصصة للإطاحة بنظام آية الله الخمينى.
لكن شارون والمتآمرين معه كانوا يفعلون فعلتهم من وراء ظهر الموساد. وعندما علم قائدا الموساد إسحاق هوفى وناحوم أدمونى بالخطة، أبلغوا أولا بيجن ثم أحبطوها.
المرحلة الثانية جاءت بعد ثلاث سنوات، فى عام 1984، عندما أثبت الموساد قوته مرة أخرى. وقرر إحضار يهود إثيوبيا بتقديم الرشاوى لكل من الزعيم السودانى الجنرال جعفر النميرى ورئيس جهازه الأمنى عمر أبو طيب.
نقلت شركة للخطوط الجوية الأوروبية اليهود الإثيوبيين ليلا إلى مطار الخرطوم ووصلوا إسرائيل عبر بروكسل. كانت الشركة مملوكة من قبل جورج جوتلمان، وهو يهودى بلجيكى والذى سعد كثيرا لمساعدة الموساد. سميت العملية بـ«عملية موسى». ومن المفارقات أن العمل الرئيسى لشركة طيران جوتلمان كان لنقل الحجاج المسلمين إلى مكة المكرمة.
فى تنفيذ عملية موسى، تم جلب 30 ألف يهودى إثيوبى إضافى إلى إسرائيل. لكن الجسر الجوى لعب دورا فى سقوط نظام النميرى الذى اتُهم بالتعاون مع إسرائيل. وتم استبدال النميرى بصديق إسرائيل القديم صادق المهدى.
***
سرعان ما حدث انقلاب عسكرى آخر فى الخرطوم وأتى بالجنرال عمر البشير إلى السلطة فى عام 1989. وبتأثير عميق من رجل دين مسلم يتمتع بشخصية كاريزمية يُدعى حسن الترابى، سيطر الثنائى على السودان وحولاه إلى دولة دينية عسكرية. وجد أسامة بن لادن ملاذا له فى السودان من عام 1990 إلى عام 1996. وأقام السودان علاقات قوية مع إيران.
كانت النتيجة أن السودان سمح باستخدام أراضيه كمنشأة تخزين للأسلحة التى يهربها فيلق القدس الإيرانى إلى حماس فى غزة.
هنا كان لا يمكن لإسرائيل أن تقف مكتوفة الأيدى. فوفقا للتقارير الأجنبية، منذ عام 2009 فصاعدا، رد الموساد وسلاح الجو الإسرائيلى بسلسلة من الضربات الجوية ضد قوارب وشاحنات تحمل أسلحة إيرانية ومستودعات أسلحة على الأراضى السودانية.
فى العقد الماضى، انقلبت العلاقات بين السودان وإسرائيل. وأعلنت المحكمة الجنائية الدولية الجنرال البشير مجرم حرب لدوره فى ارتكاب أعمال إبادة جماعية فى إقليم دارفور وجنوب السودان. رغب اللاجئون السودانيون الفارون من الفظائع فى العثور على مأوى فى إسرائيل؛ وتم التعامل معهم كطالبى لجوء فقط، ولم يتم الاعتراف بأى منهم كلاجئ، والآن يأمل نتنياهو وحكومته اليمينية أن تكون الظروف مناسبة لترحيلهم.
أعلن جنوب السودان استقلاله، وبدأ على الفور فى شراء الأسلحة من إسرائيل. وفى مفارقة تاريخية أخرى، شرع أيضا فى حرب أهلية وارتكب فظائع مشينة.
خان البشير إيران، وصادق المملكة العربية السعودية، وأرسل قوات سودانية للقتال فى حرب اليمن مقابل المال والنفط السعوديين.
وبسبب الانفتاح السعودى تجاه الدولة الإسرائيلية فى السنوات الخمس الأخيرة، بدأ البشير فى مغازلة إسرائيل. كانت لديه أسباب مناسبة للغاية: كان يأمل أن يتمكن نتنياهو والموساد من الاستفادة من النفوذ السياسى للإيباك AIPAC والمنظمات اليهودية الأمريكية لتطهيره من جرائمه، وتحسين سمعته، مقابل إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
وفقا لتقارير أجنبية، فى السنوات الأخيرة من حكم البشير، التقى رئيس الموساد يوسى كوهين مع نظيره السودانى الجنرال صلاح قوش لإجراء مناقشات أولية حول شكل من أشكال العلاقات التجارية والدبلوماسية بين البلدين.
لكن الاضطرابات الداخلية فى السودان وموجة المعارضة المكبوتة لحكمه وقفت فى طريقه. علم الموساد أن أيام البشير فى السلطة معدودة. وتم عزله أخيرا فى إبريل 2019.
***
الآن، مع رحيل البشير، أصبحت الظروف مواتية لنهضة العلاقات بين تل أبيب والخرطوم. ومع تطبيع العلاقات بين دول خليجية وإسرائيل، جددت حكومة نتنياهو بهدوء ولكن بحماس جهودها لتحويل السودان إلى دولة عربية سنية صديقة لإسرائيل. فى الوقت الحالى، طلب إسرائيل الفورى بسيط: السماح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق فوق المجال الجوى السودانى.
لن تكون الرحلة سهلة: المعارضة السياسية السودانية تحدت موقف البرهان لحظة تسرب نبأ اجتماعه مع نتنياهو. واتهموه بالتعاون مع «العدو»، فى حين زعمت القيادة المدنية فى البلاد أنه لم يتم إخطارهم بالاجتماع مسبقا. وابتعد البرهان عن الانتقادات بمنطق أنه التقى بنتنياهو لصالح ورفاهية الشعب السودانى ــ مؤكدا أن الانفراج فى العلاقة مع إسرائيل لا يقلل من دعمه للفلسطينيين.
كان غرض نتنياهو السياسى المباشر هو احتلال عناوين الصحف لتعزيز مكانته وشعبيته قبل الانتخابات. وستكون الخطوة القادمة فتح علاقات تجارية ودبلوماسية رسمية.
ختاما، من المؤكد أن هذا يعد انتصارا دفاعيا وأمنيا لإسرائيل أن دولة معادية بشكل علنى قبل بضع سنوات فقط، مثل السودان، تتحول إلى دولة صديقة، تاركة إيران وحماس.
نتنياهو يعجبه أن يقول أن هناك علامة واضحة على تغير الجغرافيا السياسية فى الشرق الأوسط. إلا أن التاريخ المتعرج وغير المتسق للعلاقات بين إسرائيل والسودان يشير إلى أن هذا التغيير بالذات قد لا يكون مستداما.

إعداد: ياسمين عبداللطيف زرد

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved