الألزهايمر.. صوفيا لورين وتغريدة البجعة

ليلى إبراهيم شلبي
ليلى إبراهيم شلبي

آخر تحديث: الجمعة 27 نوفمبر 2020 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

فى صورة أشبه بالأساطير القديمة تعيش أسرة، يتجاوز أفرادها الخمسة آلاف رجل وامرأة فى مدينة ميدلتين «Medeltin» بولاية كولومبيا الأمريكية.
يتقاسمون العيش ويترقبون مصيرا واحدا، يقودهم إلى انحسار العقل وضياع الذاكرة، تسلبهم سنوات الحكمة ويسرق منهم الجهد والفعل وثمار العمل. تتوارث الأسرة موروثا جينيا طالته طفرة فى تركيبه يقود إلى الإصابة بالألزهايمر.
فى سنوات ما بعد الأربعين تبدأ أعراض اضطراب الذاكرة وتداخل الرؤى واختلاط الصور وتدهور وظائف المخ المعرفية. فى بداية الخمسينيات تكتمل الصورة العدمية للمرض الذى يداهم المخ فيدلف الإنسان إلى موات قبل الموت.
كان الفضل عام ٢٠١٠ لجريدة النيويورك تايمز فى إلقاء الضوء على تلك العائلة الفريدة من البشر وميراثها من العدم. رصدت الولايات المتحدة فى ذلك العام مائة مليون دولار لتبدأ أكبر دراسة علمية والتى مازالت مستمرة إلى الآن فى محاولة لاكتشاف الأسباب الحقيقية لذلك المرض الشرس الذى لا يستهدف فى الإنسان الا صوابه فيذهبه عقله ليمحو كل أثر للمعرفة فيه، فلا يبقى ولا يذر إنما يترك مساحة بيضاء لا دليل واحدا فيها على حياة كانت أو تاريخ يذكر.
الحديث عن الألزهايمر بلاشك حديث مؤلم خاصة إذا ما اقترن بصور نعرفها لشخصيات كانت إضافات بديعة لتاريخ الإنسان.
داهم «خرف الشيخوخة» كاتب أمريكا اللاتينية الأشهر صاحب "مائة عام من العزلة" جبريل جارسيا ماركيز، فنكس الأدب أعلامه فى وداع أكثر الحكائين براعة، وظلت صورته الأخيرة التى سمحت بها عائلته قبل أن يدخلوه عالم العزلة بعد أن تأكد تشخيصه.. مازالت تلك الصورة تلح على خاطرى تداهمنى من آن لآخر لا تلمس مواطن الذاكرة واختبرها فى عقلى ،فأدعو له أيا كان المصير.
حدث أن شاهدت هذا الأسبوع فيلما بديعا لأيقونة السينما العالمية والإيطالية صوفيا لورين.. فى عامها السادس بعد الثمانين أخرج لها ابنها إدوارد بونتى فيلما يعد وثيقة فنية تؤكد أن الفن موهبة حقيقية يمنحها الله سبحانه كنعمة استثنائية لبعض البشر. بملامح خالية تماما من كل مساحيق التجميل محملة بتفاصيل إنسانية به متراكمة على مر السنين جسدت صوفيا لورين السنوات الأخيرة فى حياة امرأة يهودية نجت من الهولوكوست لتعيش حياة على الهامش مع مجموعة من أطفال تعمل أمهاتهم كفتيات ليل. تعيش لحظاتها الخاصة فى قبو تحتفظ فيه بتذكارات حياتها التى كانت حتى يسوق القدر إليها طفل من السنغال مسلم، تهتم «روزا» «بموتو» الاسم الصغير لمحمد وتبدأ فى محاولات تهذيبه ودمجه فى الحياة بصورة إنسانية يقبلها المجتمع. ينمو بين الاثنين شعور بالود والمحبة، بينما هى تتأرجح بين لحظات الوعى واللا وعى بينما تنحسر ذاكرتها ببطء وبلا تراجع. تأخذ على الصغير عهدا ألا يتركها للأطباء يجرون تجاربهم عليها فهى تعلم أن رحيلها عن دنيا الوعى باتت وشيكة. يهرب بها الصغير إلى القبول الذى احتفظت فيه بكل تذكارات ذاكرتها لتموت بين ذراعيه بعد أن أحضر لها بعضها من الزهور الصناعية التى تشبه تلك التى كانت تغطى مدخل منزلها فى زمن مضى. وانتهت أيامه، ينتهى الفيلم وفى الخلفية لحن شجى موحى لأغنية كأنما كلماتها ما يجول بخاطر الصبى.. والدموع تملأ عينيه: لا تتعرفين على أحد.. لكنى أعرفك.. حينما تنفذ كلماتك.. وتتسرب ذكرياتك أنا هنا.. إن احتاجتنى.. أنا هنا.. فقدان الذاكرة يفوق الموت قسوة.. لكننى لك هنا.. لا أعلم ما قد تخبئه الحياة الآتية.. لكن إن أردتنى.. أنا هنا.
الفيلم قطعة من الدانتيل نسجتها صوفيا لورين باقتدار.. فى بساطة مذهلة.. وإنسانية عذبة.. وشجن يحاكى ترنيمة البجعة الأخيرة.
أفقت من شرودى لأسأل.. هل لمريض الألزهايمر فى بلادى موقع على خريطة الصحة؟
سؤال أتمنى لو كانت له إجابة أو صدى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved