جيل منزوع الدسم

كارولين كامل
كارولين كامل

آخر تحديث: الإثنين 27 نوفمبر 2023 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

فى كل مرة أعود إلى منزل أسرتى أواجه مشكلة فى احتساء قهوة الصباح، لأنى لم أعد أستسيغ طعم اللبن الذى يشترونه من الفلاحة كل أسبوع، تربيت على تناوله ولكن بعد أن انتقلت إلى القاهرة تغيرت الكثير من عاداتى الغذائية، ومن بينها أنى صرت أشترى اللبن المعلب الذى يتهكم عليه والدى ويصفه بأنه مياه ملونة خالية من الدسم ولا علاقة له باللبن.
لبن الفلاحة، وهو أرخص بالتأكيد من اللبن المعلب، يشكل المادة الخام للحصول على منتجات أخرى، حيث يُعد والدى الزبادى منزليا وأحب أكله بسبب قوامه السميك، والقشطة التى يمكن تناولها مع العسل والمربى فى الفطار، أو عزلها عن اللبن وبعد توفر كمية كبيرة منها تُحول إلى سمن بلدى، وهكذا يفعل شريحة كبيرة من السكان القاطنين خارج العاصمة.
كان اللبن وسيلة تعذيب فى طفولتنا، فلم نكن نحب احتساءه مثل كثير من الأطفال، وارتبط فى ذهنى بشكل ما بموسم الدراسة لأنه كان طقسا إجباريا قبل النزول من المنزل، فى فترة وفقا لوالدى نحتاج فيها إلى تغذية جيدة تساعدنا على التركيز والتفوق.
لم يكن اللبن وحده من ضمن المقرر اليومى فى الدراسة، بل دخل البيض والجبنة ضمن وجبتنا اليومية كأطفال، لأن تناول البروتين ليس رفاهية وإنما هو ضرورة لا غنى عنها كما نصت الأبحاث العلمية بشكل واضح بأن الأطفال الذين لا يتناولون البروتين بشكل يومى لا ينمون بشكل صحى، ويعانون من الإجهاد وقلة التركيز وضعف المناعة، بالإضافة إلى أن البروتين يوفر الأحماض الأمينية الأساسية لضمان صحة عقلية.
فى زيارتى الأخيرة حظيت بفرصة مقابلة الفلاحة التى يتعامل معها والداى مؤخرا، تأتى إلينا مرتين فى الأسبوع، تصل عادة فى السادسة صباحا وتكون أمى فى انتظارها، هذه المرة سألتها الفلاحة إن كنا نريد شراء المزيد من اللبن، فسألتها أمى عن السبب، جاوبتها أن عدد الأسر التى تتعامل معها منذ سنوات تناقص فى الأشهر الأخيرة بعد أن تراجعوا عن شراء اللبن بسبب زيادة الأسعار، على الرغم من أنها لم ترفع سعر اللبن سوى جنيهين وهو ما يعادل بالكاد ما ارتفع من أسعار أخرى مثل المواصلات وغيرها، وتتكبدها هى فى انتقالها من قريتها إلى المدينة.
الأسر التى توقفت عن شراء اللبن لديهم أطفال فى مراحل دراسية مختلفة، ولم يتوقفوا فجأة عن شراء اللبن، بل تراجعوا تدريجيا، بأن صاروا يشترون كميات أقل حتى توقفوا تماما، وصار لدى الفلاحة فائض من اللبن ويشكل لها خسارة إن لم تجد من يشتريه.
• • •
أتذكر فى مرحلة الدراسة أيضا سندوتشات البيض المسلوق التى كنا نتذمر عليها بل وقد نتخلص منها دون أكلها فى المدرسة، فى وقت كان نصيب الفرد فى الأسرة بيضتين كل يوم وأحيانا أكثر، ليس فى منزلنا فقط بل فى شريحة كبيرة من المنازل، فالبيض لم يكن سلعة تدل على الرفاهية، وإنما يشكل البروتين الذى يحل محل نظيره من البروتينات، ليس كوجبة فطار فقط، بل يمكن إعداد وجبة الغداء من أرز أو مكرونة وبيض مسلوق.
صار كل ذلك من الماضى خاصة مع اقتراب سعر البيضة الواحدة من خمسة جنيهات، ما أدى إلى توقف الكثير من الأسر عن شراء البيض، بعد أن قاطعوا الدجاج أيضا الذى قفز سعره بشكل جنونى، ولا داعى للحديث عن سعر اللحمة فهى تزور موائد شريحة كبيرة من الشعب المصرى فى المناسبات الرسمية والأعياد.
وفقا لمنظمة اليونيسف تعتبر مصر ضمن ٣٦ بلدا يتركز فيها ٩٠٪ من عبء سوء التغذية العالمى، والمقصود بسوء التغذية هو عدم حصول الفرد على غذاء متوازن منذ الصغر، ولكن يضاف إلى ذلك ما تعانيه مصر من ارتفاع نسبة التقزم المرتبط بشكل أساسى بسوء التغذية منذ بداية حمل الأم وحتى ولادة طفلها وعدم حصوله على غذاء صحى يحتوى بالأساس على البروتين.
نحن الآن أمام جيل لا يحصل شريحة كبيرة منه على البروتين بشكل يومى بل قد لا يحصل عليه لأسابيع، ومن المؤسف والغريب فى الوقت ذاته أن هؤلاء مع الوقت وتفاقم الأسعار قد لا يعرفون ما هو طعم اللبن أو البيض اللذين حتى سنة تقريبا كانا أرخص بروتين متاح للشعب المصرى حتى ولو بكميات قليلة مقارنة باللحوم والدجاج.
الطعام واحد من ملذات الحياة بشكل عام، وأقصد الطعام الجيد وليس ما نلجأ إليه لسد جوع فقط، ولكن للأسف يصعب الحديث عن تلك الجودة فى ظل تحول هذه اللذة إلى رفاهية، فى ظل وجود ضرورة ملحة إلى إعادة التوازن فى ما يأكله شعب مصر، وإتاحة البروتين لهؤلاء الذين فقدوا القدرة على تحمل أسعاره، والتقشف أشهر لتوفير ما يكفى شراء كيلوجرام واحد من اللحم.
اللحمة التى ارتفع سعرها تدريجيا حتى صارت سلعة استفزازية لشريحة كبيرة فى مصر، كان يسد غيابها وجود الدجاج وطيور أخرى والأرانب، حتى صار البروتين الحيوانى بعيدا عن منال المواطِنة والمواطن العادى، ولا يمكن انتظار مستقبل واعد للوطن، والأجيال والمنوط بها استكمال المسيرة منزوعة الدسم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved