الانتخابات البرلمانية التونسية تكرس الانقسام

رخا أحمد حسن
رخا أحمد حسن

آخر تحديث: الثلاثاء 27 ديسمبر 2022 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

إن ما أسفرت عنه المرحلة الأولى من الانتخابات التشريعية التونسية فى 17 ديسمبر 2022 لم يكن أمرا مفاجئا سواء داخل تونس أو خارجها، ربما باستثناء الرئيس قيس سعيد والأحزاب السياسية وتجمعات الشباب المؤيدة له. فقد ساد الانقسام وتبادل الاتهامات بين المعارضة والمسار السياسى لرئيس الجمهورية ومؤيديه منذ انطلاق هذا المسار فى 25 يوليو 2021 وما تبعه من مراسيم رئاسية بحل الحكومة، وحل البرلمان، ووقف العمل بالدستور، وإصدار دستور جديد معترض عليه، وإصدار قانون انتخابات جديد معترض عليه بدلا من القانون السابق، واستبدال الهيئة العليا للانتخابات المنتخبة بهيئة جديدة معينة بمرسوم رئاسى ومعترض عليها.
كما أن إلقاء نظرة عامة على أطراف المشهد السياسى التونسى قبل إجراء الانتخابات وفى أثنائها وبعدها، تعطى صورة عن مدى ما وصل إليه من انقسام حاد بين الفرقاء فى تونس. فقد وجهت انتقادات حادة من كل أطياف المعارضة إلى قانون الانتخابات الجديد، سواء من حيث نظام الاقتراع، وتقسيم الدوائر الانتخابية، وشروط الترشح، وكلها تغييرات لم تُبْنَ على مقاييس واضحة. ومن الانتقادات أن هذا القانون أدى إلى ظهور «العصبية القبلية»، والاعتماد على أموال المهربين ورجال الأعمال الفاسدين لأنه، على حد رؤية معارضى القانون، ألغى التمويل العمومى للحملات الانتخابية للمرشحين، واعتمد نظام الترشح الفردى بدلا من نظام الترشح من خلال القوائم وفقا لبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية للأحزاب والكتل السياسية، وهو النظام المتبع فى تونس منذ ثورة 2011، بينما النظام الفردى يعتمد أساسا على وجاهة المرشح ونفوذه فى دائرته الانتخابية، دون الاهتمام بالبرامج والمشروعات السياسية والاجتماعية.
لذا فقد سبق أن طالب بعض أساتذة القانون وزعماء الأحزاب السياسية المعارضة بإلغاء الانتخابات قبل إجرائها، وأوضحوا أنها ستكون انتخابات صورية. كما طالبوا بإجراء إصلاحات سياسية حقيقية تتضمن ضمان استقلالية الإعلام والقضاء، وإلغاء العقوبات المفروضة على 57 قاضيا منذ أشهر، واحترام الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وأبدوا ملاحظات بأن أغلبية المرشحين لانتخابات البرلمان ذكور وأن ثلاثة أرباعهم من صغار الموظفين والمتعطلين عن العمل، ذلك لأن القانون الانتخابى الجديد اشترط تفرغ أعضاء البرلمان المقبل. ورأوا أن إجراء الانتخابات فى ظروف تونس الحالية، ورغم مقاطعة معظم الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدنى للانتخابات، سيؤدى إلى ضعف الإقبال عليها. كما شكك ناشطون سياسيون فى شرعية المسار السياسى والانتخابى للرئيس قيس سعيد جملة وتفصيلا، وأن الأحزاب العشرة التى انخرطت فى جبهة الخلاص الوطنى تطالب بوضع حد للقرارات الاستثنائية الصادرة منذ 25 يوليو 2021، ومنها الانقلاب على شرعية البرلمان المنتخب بصفة شفافة ونزيهة عام 2019، وبحضور عشرات آلاف المراقبين التونسيين والأجانب. وأعلنت زعيمة الحزب الدستورى الحر، عبير موسى، أن حزبها سبق أن قدم احتجاجا إلى الخارجية الفرنسية عن طريق سفارة تونس فى باريس، على ما أعلنه الرئيس الفرنسى ماكرون عند حضوره مؤتمر الفرانكوفونية فى تونس الشهر الماضى (نوفمبر) من تأييده للرئيس سعيد وللانتخابات التشريعية. كما قدم الحزب طعونا أمام المحكمة فى شرعية المسار السياسى والانتخابى الحالى، وفى شرعية الهيئة العليا للانتخابات، وفى قرارات ما أسمته «سلطة الانقلاب» منذ 25 يوليو 2021 حتى الآن.
وكان الرئيس قيس سعيد، أثناء افتتاح مؤتمر الفرانكوفونية، قد نفى عن نفسه أن يكون من أنصار الدكتاتورية، واستدل على ذلك بهامش الحريات الكبير الذى تتمتع به كثير من الإذاعات ووسائل الإعلام الخاصة فى تونس، رغم انتقاداتها اللاذعة للسلطة وترويجها أخبارا غير صحيحة.
• • •
وقد أجريت المرحلة الأولى من الانتخابات التشريعية فى الخارج فى 10 دوائر، لم يتقدم أى مرشح فى 7 دوائر منها، ونجح المرشحون فى الدوائر الثلاث، وهم ثلاثة مرشحين، بالتزكية حيث لم يكن ثمة منافسون لهم. وأجريت فى الداخل فى 161 دائرة بواقع انتخاب نائب عن كل دائرة بالحصول على 50% زائد صوت واحد من أصوات الناخبين المسجلين فى الدائرة. ولم ينجح إلا 30 مرشحا، وستعاد الانتخابات فى المرحلة الثانية فى 3 فبراير 2023 فى 131 دائرة أى نحو 89% من إجمالى الدوائر.
وأعلنت الهيئة العليا للانتخابات النتائج، وأن عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم مليون و25 ألف و418 ناخبا بنسبة 11,22% من إجمالى الناخبين المسجلين والبالغ عددهم نحو 9 ملايين ناخب. وتعد هذه أدنى نسبة مشاركة فى تاريخ الانتخابات فى تونس. وقد أرجعت الهيئة العليا للانتخابات وبعض السياسيين التونسيين المعارضين، عدم وجود مرشحين مقبولين فى 7 دوائر فى الخارج، إلى تغيير قانون الانتخابات باشتراط تزكية 400 ناخب مسجل لكل مرشح، وأن يكون نصفهم من النساء، و25% منهم تقل أعمارهم عن 35 سنة. وقد اعتبر البعض أنها شروطا تعجيزية أمام الراغبين فى الترشح. ويرى المنسق العام للحراك المؤيد لمسار 25 يوليو أنه حدثت عملية تشويه رافقت المسار الانتخابى من جهات تسعى إلى تسفيه هذه الدورة الانتخابية عبر فبركة صور تتعلق ببعض المرشحين، رغم أنهم أكفاء، وأسلوب الشيطنة والبيانات الصادرة عمن أزاحهم الشعب على حد تعبيره.
ويرى الخبراء التونسيون أن من أسباب الانخفاض الكبير لأعداد الناخبين المشاركين فى التصويت غياب الأحزاب السياسية بما لديها من برامج وإمكانيات لجذب الناخب، واعتماد المرشحين الأفراد الذين بلغ عددهم 1055 مرشح، فى دعايتهم على مواردهم الذاتية المتواضعة، وتغيير النظام من القوائم إلى الفردى، وغياب المال السياسى عن الحملات الانتخابية. وقد اعتبر رئيس هيئة الانتخابات أن هذه الانتخابات كانت نظيفة، وأجريت الحملات الانتخابية لأول مرة فى أجواء نظيفة خالية من المال السياسى المشبوه الذى كان السبب وراء شراء الأصوات، وتوظيف وسائل الإعلام لصالح أحزاب سياسية. وأشار إلى أن محكمة المحاسبات أدانت العديد من الممارسات السياسية فى الانتخابات السابقة، وأن انتخابات 17 ديسمبر 2022، وقبلها استفتاء 25 يوليو 2022، لم تشهد هذه الظواهر «المقيتة» كالمال السياسى، والتمويل الأجنبى للانتخابات. وقد أقر رئيس الهيئة بتواضع مشاركة الناخبين وأنهم كانوا يتوقعون أن تصل المشاركة إلى 30% من إجمالى الناخبين. ويلاحظ أن بعض اللجان سجلت عدم حضور أى ناخب، ولجان أخرى سجلت حضور ناخبين اثنين فقط. وقد وصف أنصار الرئيس سعيد الذين لم يشاركوا فى الانتخابات أنهم «متخاذلون« واعتبروا أن انتخابات الغرفة الثانية للبرلمان، والتى ستجرى بعد ستة أشهر من الانتخابات الحالية للغرفة الأولى، استكمالا لبناء المؤسسات الدستورية بعد حل البرلمان والمؤسسات الأخرى المتهمة بالفساد وخدمة أجندات الأحزاب التى تحكمت فى المشهد السياسى التونسى فى العشرية الماضية، ومن بينها حزب حركة النهضة، وحزب نداء تونس، وحزب تحيا تونس، والشركاء فى الحكومات السابقة منذ ثورة 2011.
• • •
وقد علق الرئيس قيس سعيد على ما تراه المعارضة من تدنى نسبة المشاركة فى الانتخابات بصورة غير مسبوقة، بأنه يتعين انتظار المرحلة الثانية من الانتخابات ونتائجها حتى يكون الحكم عليها سليما، وانتقد موقف بعض الدول من هذه الانتخابات. وكانت واشنطن قد اعتبرت أن هذه الانتخابات خطوة أولى أساسية نحو استعادة المسار الديمقراطى فى تونس، وأن نسبة الامتناع عن التصويت المرتفعة تظهر الحاجة إلى مزيد من المشاركة السياسية على نطاق أوسع، وأهمية إجراء إصلاحات شفافة وجامعة مثل إرساء المحكمة الدستورية، وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة لجميع التونسيين.
وقد دعا الاتحاد العام للشغل (العمال) التونسى إلى صياغة خارطة طريق لإنقاذ تونس من الأزمة التى تعيشها بعد الامتناع الكبير عن التصويت فى الانتخابات البرلمانية، واعتبر ذلك بمثابة تنصلا شعبيا من الرئيس قيس سعيد، كما أن ذلك يفقد الانتخابات المصداقية والشرعية، ويمثل رفضا واضحا للنظام الذى يسعى الرئيس قيس سعيد إلى إرسائه منذ 25 يوليو 2021، والذى لم ينجح فى معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التى يعانى منها التونسيون، وأن الوضع فى تونس «أصبح قابلا للانفجار«. وأكد الاتحاد مسئولية القوى الوطنية فى إنقاذ البلاد وفق أهداف وطنية واضحة وخريطة طريق، حيث أن مسار 25 يوليو قد انحرف عن بوصلته، وأن العزوف عن المشاركة فى الانتخابات يؤكد بوضوح موقفا شعبيا رافضا، وعزوفا جماعيا عن مسار متخبط لم يجلب لتونس إلا «مزيدا من المآسى والمآزق».
واشتدت وتصاعدت معارضة المسار السياسى والانتخابى للرئيس قيس سعيد، ما بين مطالبين برحيله واعتبار نتيجة الانتخاب المتدنية بمثابة استفتاء على سياساته، ومطالبته بإلغاء الانتخابات والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة. بينما طالب فصيل من المعارضة برحيل الحكومة لإخفاقها فى إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية والاجتماعية واستبدالها بحكومة أعلى كفاءة، وهم فى ذلك يتفقون مع فصيل من المؤيدين للرئيس سعيد ويسعون إلى تحميل الحكومة المسئولية والتضحية بها. وازدادت الانقسامات وتكرست على الساحة التونسية، ولكن مطالبة الرئيس سعيد بالانتظار حتى نهاية الانتخابات لتكتمل ويمكن الحكم عليها بالنجاح أو الفشل يشير إلى أنه لن يتراجع عن مساره السياسى وأنه سيمضى حتى انتخابات الغرفة الثانية للبرلمان بعد ستة أشهر من انتخابات الغرفة الأولى، ثم بعدها الانتخابات البلدية.
ولا شك فى أن استبعاد عدد كبير من الأحزاب والكتل السياسية من الانتخابات أو مقاطعتهم لها، بما فى ذلك بعض الأحزاب التى سبق وأيدت المسار السياسى لرئيس الجمهورية فى بدايته، إلا أنهم قاطعوا الانتخابات، وكذلك الاتحاد العام للشغل الذى لم يكن معارضا قويا للمسار إلا أنه تراجع ويرى أنه يتعين صياغة خريطة طريق جديدة لمستقبل تونس، كل ذلك أضعف بشدة الإقبال على التصويت فى الانتخابات وانصرف الناخبون إلى محاولة معالجة مشكلاتهم الحياتية الاقتصادية والاجتماعية وحالة الغلاء الشديد وندرة أو اختفاء بعض السلع من الأسواق.
ويتبقى المخرج من هذا الموقف المتأزم فى دخول الرئيس قيس سعيد فى حوار بناء وفعال مع الاتحاد العام للشغل للسعى من أجل التوصل إلى صيغة مقبولة من جميع الأطراف، سواء الأحزاب والكتل السياسية أو الرئيس ومؤيدوه. وإذا تعذر ذلك، فإن تونس ستبقى على سطح صفيح ساخن وسط انقسامات حادة تهدد، كما حذر الاتحاد العام للشغل، بحدوث انفجار عام يعصف بكل الأوضاع القائمة والمرفوضة من أغلبية الشعب التونسى.

مساعد وزير الخارجية الأسبق

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved