«القديس عمر».. محاكمة إنسانية لعالم لا إنسانى

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 27 ديسمبر 2022 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

عقب مشاهدتى فيلم المخرجة الفرنسية أليس ديوب «القديس عمر» الذى ينافس على الأوسكار هذا العام، وجدتنى أتذكر ما كتبه الأديب رولان بارت «القانون دائمًا على استعداد لإعطائك عقلًا احتياطيًا من أجل إدانتك دون ندم»، تلك الرؤية تحققت على الشاشة، مررتها المخرجة التى اشتهرت بوثائقيتها فى فيلمها الطويل الأول، عبر صورتها وسردها وحوارها الذى ظل يطارد أفكارك وهواجسك، بل ويحاور مشاعرك بسيناريو راسخ ومحكم يعرف هدفه الفنى جيدا.. عالم صغير ضيق تجسد على الشاشة، لكنه بدا كبيرا بمفرداته وعمقه الفنى وقضيته وسيظل عملا مهما.
فى «القديس عمر» الذى عرض على شاشة مهرجان البحر الأحمر ومن قبله على شاشة فينيسيا، ويبقى أحد أروع أفلام العام، تحاكم لورانس كولى «جوسلاكى مالاندا»، مهاجرة سنغالية متهمة بإغراق طفلتها الصغيرة البالغة من العمر 15 شهرًا فى البحر بشمال فرنسا.
وقائع القضية لا جدال فيها، حيث تعترف لورانس بأنها فعلت ذلك، لكنها تصر على أنها ليست مسئولة عن الفعل فى إطار درامى مدهش.
ينطلق الفيلم ــ الذى يستند لأحداث حقيقية جرت وقائعها عام 2013 ــ من هذا التناقض المحير أمامك، حيث يسلط ضوءًا متعاطفًا على امرأة من السهل جدًا اعتبارها شخصية قاسية وشريرة، حيث تروج الصحافة الفرنسية للقصة باعتبارها جريمة وحشية، ويتابع الجمهور عن كثب المحاكمة سيئة السمعة باهتمام شديد، وكذلك من خلال النظرة المؤلمة لـ«راما» أو « كايجى كاجامى» الروائية الناجحة التى تكتب عن المحاكمة الخانقة داخل القاعة.
كما يتناول العمل أفكارًا فلسفية مشحونة باتباع نهج مختلف تعيد فيه المخرجة أليس ديوب بناء إجراءات قاعة المحكمة فى لقطات طويلة تؤكد على فن البورتريه الإنسانى الذى يعكس الانفعالات والمشاعر ورسوخ البطلة داخل الكادر، وكذلك لغة الحوار الذى يتحدث عن كرامة الشخصية فى وجه العار، وفى عنادها النفسى، وفى غموضها حتى لنفسها، «راما» التى تعمل على إعادة رواية معاصرة لأسطورة قديمة هى نفسها الحامل وغير المستقرة ولديها مخاوف بشأن الأمومة، فيما يتم الكشف تدريجيا عن قصة حياة لورانس المرأة المتهمة من نشأتها الصارمة فى السنغال إلى العزلة التدريجية عن الأسرة والمجتمع عند وصولها إلى أوروبا.
غادرت الفتاة فى سن الـ18 بعد أن عاشت حياة سعيدة فى السنغال، وأتت لتعيش فى باريس أثناء دراستها للفلسفة التقت برجل أبيض يكبرها بسنوات، هو لوك دومونتيت، وأصبح والد طفلها، لتكشف تجاربها مع العنصرية والخداع العاطفى.
الفيلم تصويره بدقة وأناقة مركزا على النساء السود فى المجتمع الفرنسى غالبًا ما تجعل استكشافات الهوية سينما مقنعة، وهو ما نراه هنا عبر دراما ساحرة بصريًا فى قاعة المحكمة، تستكشف أوجه التشابه والاختلافات بين امرأتين شابتين من أصل سنغالى تعيشان فى فرنسا، حيث تشعر راما الروائية بالانجذاب إلى قصة لورانس كولى، الشابة التى تُحاكم فكلتا المرأتين تميلان لعقدة ما لديهما.. علاقات معقدة مع أُمَّيْهِما.
والحقيقة تركز سنوات عمل المخرجة أليس ديوب على استكشاف مجتمعات المهاجرين على هامش المجتمع الفرنسى، فلورانس تروى قصتها بتفاصيل معقدة، وصولا إلى أصغر التفاصيل حول حياتها فى السنغال، وقصة الهجرة الخاصة بها، وحتى مشاعرها الداخلية، ومع ذلك فهى نفسها غير متأكدة أبدًا من سبب قيامها بما فعلته، تسمح المخرجة لهذا الغموض بالبقاء، وكأنه شبح يحوم فوق الإجراءات وربما ما يزيد العمل جمالا هو التعاطف الذى نشعر به تجاه كل هؤلاء النساء.
«القديس عمر» تأمل شديد فى تجربة المرأة المهاجرة، يضع أمًا على المنصة والجمهور فى صندوق التحكيم للعثورعلى الإنسانية فى عالم لاإنسانى، بعد طرح أسئلة صعبة ومقلقة حول العرق والعدالة والأمومة والتحيز والاختلافات الثقافية، دون العثور على إجابات سهلة.
الفيلم لا يهتم بالحكم بقدر اهتمامه بكشف وجهة نظر الجمهور لقاتلة الأم، فى محاولة لتقرير ما إذا كانت مجنونة أو شريرة أو تتصرف فقط من جذورها الأجنبية. إنها تريدنا أن نفكر بعمق فى علاقة الأم بأطفالها وأن نكون على دراية بعلامات الخطر التى تنتقل من عصور قديمة فى هذا العالم الجديد الأكثر تعقيدًا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved