رأيت «.. دمشق»

يوسف الحسن
يوسف الحسن

آخر تحديث: الأحد 28 يناير 2018 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

ها نحن نعبر مطار دمشق فجرا، وقبل يومين من مئوية جمال عبدالناصر. ورغم شهقة البرد، وكثافة الضباب، فقد فتحت نافذة العربة، التى تقلنى وأعضاء وفد اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، إلى اجتماعات المكتب الدائم لاتحادات الأدباء والكتاب العرب، ومؤتمر «ثقافة التنوير»، المقام على هامش هذه الاجتماعات. يتداعى إلى الخاطر، منذ لحظة الوصول، عصر دمشق الجميل، وصورتها المضيئة فى مخيلتى، أسأل مرافقى عن حال الأمن الراهن، فى طريق المطار، ويقول بثقة: «أمان بحمد الله، وسترى ذلك بنفسك».

ما أغنى المشاعر والأحاسيس التى غمرتنى، ونحن نقترب من بوابات دمشق، اتأمل أسرارها وأحزانها وقلقها، مشاعر مختلطة، أفتش فيها عن كلمات ضائعة، يلبسنى التاريخ، فينتفض الحاضر، أحدق فى بهو ومقاعد فندق «قصر الشام»، الذى زرته قبل عقود،.. وتطل فى الخاطر ذكرى زيارة رسمية للمرحوم القائد المؤسس الشيخ زايد ــ طيب الله ثراه ــ إلى دمشق إثر حرب أكتوبر 1973، وقد التحقت والصديق المرحوم تريم عمران بالوفد، قادمين من القاهرة، وكيف حرص الشيخ زايد على زيارة للقنيطرة التى عانت أثناء الحرب.

اختلطت المشاعر، السعادة بالحزن والدهشة بالأسف، دوامة بلا نهاية من الأحاسيس... لماذا جئنا؟ وهل تأخرنا ؟ سعادة المضيفين بِنَا طاغية، ويجيبنى الصديق الشاعر حبيب الصايغ، فى كلمته الافتتاحية: «وصلنا إلى أنفسنا، حين وصلنا إلى دمشق»، هل يكفى أن يكون وصولنا، من أجل الثقافة، ومن أجل التضامن

مع الكاتب والأديب والمبدع السورى؟ قلت فى كلمتى: «نلتقى حول الثقافة، ونختلف بعيدا عن التخوين والتكفير».

***
أتأمل جبل قاسيون، من نافذة الفندق، ها هو فى موضعه، لم يرحل، ولم يُهجّر، كم مدينة خُربت، وقرية ذبلت فى حروب عبثية، وها أنا أرى دمشق متجهمة، مكسورة الخاطر، تحملت الكثير، وكأنى بها تلقى برأسها المتعب، على أكتاف الأدباء والكتاب العرب، الواصلين إليها.

اتأمل المبانى المتلاصقة بلونها الغامق، أبحث عما تبقى من «فُل دمشق وياسمينها»، وأتذكر منتزهاتها، ورائحة الأرجيلة المختلطة برائحة القهوة العربية، وأدور بعينى يمنة ويسرة، اتفحص وجوه المارة، فى مدينة عربية لصيقة للأفئدة والمسرة والنخوة العربية، مررت بباب توما ليلا، ورأيت أسوار دمشق القديمة، وتناولنا عشاء فى مطعم أمام المسجد الأموى. وسور الكنيسة المريمية، حضر صوت صباح فخرى، وكأنه يرش جراح دمشق بالأمل والفرح، تمنيت لو صليت ركعتين فى المسجد الأموى، وأن أقرأ الفاتحة أمام ضريح صلاح الدين الأيوبى، وأن أقف أمام تمثال يوسف العظمة، بطل ميسلون ( 1920)، الذى لم يطأطئ رأسه أمام الغازى الفرنسى.

فى دمشق، تذكرت نزار قبانى، والماغوط، وبركات وأدونيس، وقامات أخرى فى الأدب والفكر، وتوجعت وأنا أبحث عن مذاق دمشق القديم، عن جمالها «واعتدالها» الدينى والمجتمعى، الذى انتهكه القساة والطغاة والغلاة والمتوحشون، قال لى روائى سورى، وهو يقدم لى روايته الجديدة، «دعنا لا نحدق فى أخطائنا أو أخطاء الآخرين، لكن لا تديروا ظهوركم عنا»، وقالت لى سيدة عجوز، اكتشفت لاحقا أنها الروائية كوليت خورى، حفيدة فارس خورى: لا تتحدثوا عن سورية بصفتها مجرد نشرة أخبار فى محطة تلفزة فضائية»، وسألنى شاعر سورى، يكتب عن الحرية، وجنرالات «غابات الاستواء»، وعن طباع قريته الصغيرة، التى لا تحب البرد ولا المقابر: «ما هى حصة المثقف والمبدع والأديب فيما جرى فى سورية من اهوال»؟
***
قبل إلقاء كلمتى فى المؤتمر، تعرضت لامتحان مباغت من طرف أكاديمية سورية، ويسارية للغاية، حينما فاجأتنى فى خطابها (السياسى الخالص والفج) والمكتوب، بترديد أسطوانة مشروخة ومغشوشة، عن الإمارات، سمعناها مرارا، فى خطابات (الجزيرة) والتيارات الإسلاموية المتطرفة والميليشاوية والإرهابية الإخوانية، وهى الخطابات والأفعال التى مزقت النسيج المجتمعى السورى، ومجتمعات عربية أخرى، وحاولت افتراس سورية وغيرها، وصبغ أراضيها بالدم والدمار، قلت لها: «إننا جئنا دمشق، نمسح جروحها التى أدماها من ترددين خطابهم، ممن حرّض وجيّش وروّج وضلل وموّل واحتضن وكفّر وذبح... إلخ، حتى صارت سورية مشاعا للمقاتلين الجوالين، وملعبا للمليشيات والقوى الإقليمية والدولية، «وصيدة» حسب مصطلح أحد سيئ الذكر، وجاءنا من يعتذر عما ورد من صاحبة الخطاب المغشوش والموتور.

رأيت دمشق، بقلب مكسور، لما لا وقد أفرزت الحرب فيها وعليها، خرائط صغرى، فقيرة ومثخنة جراحا، قال لى روائى سورى (كردي): «لا نريد تمزيق الخرائط، وإنما نريد حقوقنا كمواطنين»، قلت له: «أخطاء الساسة دوما كارثية، ولم يبق لكم صديق سوى الجبال، والدولة الوطنية العادلة والقوية هى جواز السفر إلى المستقبل».

إن ما يتمزق فى كل مكان هو عربى، الإنسان والأوطان والهوية القومية والموارد، وليس التركى والفارسى والغربى والروسى، والشيشانى والميليشاوى، ووصلنا إلى حالة يعتقد العالم فيها، أن قتل الإرهابيين (الذين دخلوا سورية والعراق بمعرفة عيون دولية) فى الساحة السورية، أفضل من مطاردتهم داخل مدنه.

لا يكفى القول إن عربا تمردوا، على التركى أو الفارسى أو الروسى أو الغربى، وإنما يحتاج الأمر إلى أن يتحول هذا التمرد، إلى إرادة عربية فاعلة، تستعيد التوازن والأمن القوميين، بدءا من استعادة سورية والعراق.

***
تعالوا نستعيد سوريا إلى الحضن العربى، ونساعدها فى لملمة شظاياها، قبل أن تنتهى إلى خضوع تام لقوى أجنبية، قد تطول إقامتها فى سورية، ولسد رياح التمزق، ووقف تبدل الهويات، وأمواج القتل واللاجئين، تعالوا نستعيد سورية، ووقف حروب التفكك والطلاق، وإبطال حروب أخرى أشد وأدهى، دعونا نستعيد المجتمع السورى، والأديب والمبدع، واحترام كرامة الإنسان، فى المخيمات والمنافى، ليس بالبطانيات التى تغطى أجساد الأطفال، وإنما بقرارات وسياسات حتى ولو كانت مؤلمة، تمنع من تحول سورية، إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، ولحماية أجيال ولدت فى أزمنة المليشيات المذهبية، ومخيمات اللجوء، وثقافة التكفير والكراهية والاقصاء، وقبل أن تصير خرائط الأوطان من ورق، يتقاسمها ألف «سايكس» وألف «بيكو»، من قوى دولية وغير دولية.
تعالوا ندفن «ربيعا» مغشوشا أو مسروقا أو مصنعا، سيّان، قبل أن يطول الطريق إلى دمشق، أو يضيع الطريق إلى بغداد.

لنستعيد سورية، الوطن والكيان، ولا نتحدث عن «نظام»، وفى الخاطر يلوح الدور المصرى المعهود منذ قرون، برؤية جديدة، وصياغة جديدة للأمن القومى، بعيدا عن الثارات والمرارات، والتى ما أنتجت غير الدمار والآلام والدماء وهدر الموارد والامكانيات.

تعالوا نمسح جروح الشام، ونعيد أساور الياسمين إلى يديها،، ماذا أقول وقد ناحت بقربى، حمامة، تعالوانقاسمها الهموم تعالوا.!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved