روسيا: مرحلة انتقالية بين بوتين.. و«البوتينية»

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الثلاثاء 28 يناير 2020 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع «180» مقالا للكاتب «وسام متى» تحدث فيه عن التعديلات الدستورية المقترحة فى روسيا وجوهرها، كما تناول المسارات المحتملة للحكم ما بعد انتهاء ولاية بوتين.. نعرض منه ما يلى:

عملية انتقال السلطة بدأت بالفعل فى روسيا. هذا ما تشى به التغييرات الحكومية التى قام بها الرئيس فلاديمير بوتين تزامنا مع انطلاق ورشة التعديلات الدستورية التى اقترحها فى خطابه أمام الجمعية الاتحادية، والتى وُصفت بأنها الأكبر والأهم منذ إقرار دستور العام 1993.
فى خطابه أمام الجمعية الاتحادية، اقترح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين تغييرات جوهرية فى منظومة الحكم فى البلاد، عبر تعديلات دستورية تعدّ الأهم منذ ثلاثة عقود.
وفق النظام الجديد المقترح، الذى صوّت عليه مجلس الدوما يوم 23 من يناير الجارى، وسيدخل حيز التنفيذ بشكل نهائى خلال العام الحالى، بعد موافقة مجلس الاتحاد الروسى، بموازاة طرحه على الحوار المجتمعى، سيبقى قيد الولايتين الرئاسيتين المتتاليتين قائما، ما يعنى أن بوتين حسم قراره بعدم الترشح لولاية خامسة عام 2024، ليقطع بذلك الطريق على البروباغندا الغربية الموجهة ضده حول السعى لتنصيب «رئيس لمدى الحياة».
ثمة أساب منطقية لذلك، فتبادل المناصب بين فلاديمير بوتين ودميترى ميدفيديف، أو غيره، لا يمكن أن يحدث مرة أخرى، بالنظر إلى عاملين أساسيين: الأول، هو عامل السن، فبوتين البالغ من العمر سبعة وستون عاما، سيكون قد بلغ عامه الحادى والسبعين حين تنتهى ولايته الحالية. والثانى، وهو العامل الأهم، أن روسيا تجاوزت مرحلة عدم الاستقرار منذ فترة، على نحو يجعلها قادرة على التحرر من تركيز السلطة فى يد حاكم ــ قائد.
جوهر التعديلات الدستورية المقترحة هو إحداث شكل من أشكال التوازن فى السلطة السياسية بين الرئيس والبرلمان، وهو ما كان يطالب به الكثيرون فى روسيا، من دون أن يعنى ذلك الانتقال من نظام رئاسى إلى نظام برلمانى، وهو ما شدد عليه بوتين فى خطابه الأخير.
***
وينطلق التمسك بالنظام الرئاسى من عوامل موضوعية متصلة بطبيعة الحكم بروسيا، فهذه الدولة المترامية الأطراف، والمتعددة القوميات، كان قدرها، طوال تاريخها، أن تكون فى حاجة دوما إلى حاكم قوى، تتسع سلطاته فى مرحلة الاضطرابات، وتتقلص بالقدر الذى يسمح به الاستقرار الداخلى والخارجى.
بذلك، يمكن أن يركّز الرئيس الروسى أكثر على شئون الأمن والسياسة الخارجية، بينما تنتقل صلاحياته الداخلية إلى البرلمان، الذى سيكون رئيس الحكومة مسئولا أمامه بشكل مباشرا، كونه هو الهيئة الدستورية التى سيستمد منها صلاحياته التنفيذية، بجانب مجلس الدولة، الذى سيكون له دور أساسى فى منظومة الحكم.
هذا الشكل لانتقال السلطة ينطلق من خصوصية روسية يعجز الغربيون عن فهمها ــ أو ربما لا يريدون فهمها ــ وهى أن الانتقال من حقبة إلى أخرى، لا بد أن يكون ضمن ترتيبات دقيقة، بخلاف ما هو الحال فى الانتقال التلقائى/المؤسساتى للحكم فى دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وإلى حدّ ما الولايات المتحدة.
فى الوقت ذاته، فإنّ التعديلات المطروحة تبقى الباب مفتوحا أمام بوتين للعب دور محورى فى توجيه النظام السياسى، ما يجعل التكهنات تدور حول إمكانية أن يحافظ على تصدّره للمشهد السياسى بعد العام 2024، إن من خلال ترؤس حزب «روسيا الموحدة»، الحزب الأكبر فى البرلمان المعززة صلاحياته، أو ترؤسه مجلس الدولة، الهيئة الدستورية التى ستُعزز أيضا صلاحياتها، والتى خصّها بوتين بالذكر فى خطابه حول التغييرات الدستورية.
لكن الخيار بين «الحزب الحاكم» و«مجلس الدولة» يبقى رهنا بما سيحققه «روسيا الموحدة» من نتائج فى انتخابات الدوما خلال العام 2021، فالحزب الذى تراجعت شعبيته بشكل مثير للقلق بسبب أداء حكومة دميترى ميدفيديف، يحتاج إلى تعزيز رصيده مع بدء العد العكسى للانتخابات التشريعية، وذلك عبر إجراءات ملموسة فى الملف الاقتصادى ــ الاجتماعى.
من هنا، يمكن فهم التزامن بين انطلاق ورشة التعديلات الدستورية وبين إقالة حكومة ميدفيديف، والدفع بشخصية «تكنوقراط» مثل ميخائيل ميشوستين بجانب عدد من الاختصاصيين فى الوزارات المتصلة بتنفيذ البرامج الوطنية التى سبق أن اقترحها بوتين للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتى تهدف بشكل خاص إلى التصدى للأزمة الديموغرافية ومشكلة الفقر.
ومن هنا أيضا، يمكن فهم طبيعة التغيير الحكومى الأخير، الذى أزيح فيه الوزراء المسئولون عن الإخفاقات الاقتصادية ــ الاجتماعية، وقبلهم رئيس الوزراء نفسه، الذى بات ممكنا استبداله بعدما استنفد رصيده الشعبى، فى مقابل الإبقاء على الوزراء الناجحين فى مهماتهم، لا سيما سيرغى لافروف وزير الخارجية وسيرغى شويغو الذى يقود بحزم خطة تحديث الجيش الروسى.
يُظهر ذلك بوضوح أن روسيا، خلال السنوات الأربع المقبلة من عهد بوتين ستمضى قُدما فى إعادة مأسسة المنظومة الحاكمة، وبطبيعية الحال انتقال السلطة، انطلاقا من حقيقة أن الأولوية لم تعد لـ«الاستقرار» كما كانت الحال خلال السنوات العشرين الماضية، وإنما للتنمية الاقتصادية ــ الاجتماعية.
***
ثمة تفصيلان، قد يبدوان هامشيين، ولكنهما يحملان دلالات مهمة فى فهم جدلية العلاقة بين «الاستقرار» و«التنمية»: الأول، هو أن التغيير الحكومى الأخير تضمن إلغاء وزارة شئون شمال القوقاز، وتكليف المدعى العام، بعد استقالته، بإدارة هذه المنطقة، بصفة مفوّض رئاسي؛ وأما الثانى، فكان استقالة رمضان قديروف من منصبه كرئيس لجمهورية الشيشان.
وبالنظر إلى ما تمثله الشيشان وشمال القوقاز من رمز للاضطرابات الأمنية فى روسيا منذ مطلع التسعينيات، يمكن القول إن عنصر التنمية الاقتصادية ــ الاجتماعية فى هذه المنطقة بات يحتل الأولوية على عنصر الاستقرار، الذى كان من الممكن أن يحققه شخص مثل رمضان قديروف فى مرحلة الاضطرابات، فى حين أن فشله فى التصدى للفساد والزبائنية استوجب تبديله، طالما أن دوره «الأمنى» قد أُنجز بالقدر المطلوب.
***
بالعودة إلى المسار الأول لترتيبات الحكم ما بعد انتهاء ولاية بوتين، أى «المسار الحزبى»، فإنّ الحكومة الجديدة ستقع عليها تحديات كبرى، لجهة استعادة الثقة المفقودة بفعل الاخفاقات الاقتصادية ــ الاجتماعية، والمضى فى الحرب ضد الفساد، حتى يتخلص «روسيا الموحدة» من سمة «حزب الفاسدين واللصوص»، وبالتالى ضمان قاعدة شعبية تسمح له بالاحتفاظ بغالبية كبيرة فى الدوما، من خلال إنجازات داخلية مستمدة من المشاريع الوطنية التى غالبا ما كان يقترحها بوتين ولا تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب الأداء الحكومى السابق، بالتالى تحسين الأداء الاقتصادى ليوازى نجاحات السياسة الخارجية.
وبانتظار أن تحسم صناديق التصويت فى انتخابات الدوما الأمر، يبقى هامش المناورة واسعا فى يد بوتين لضمان الانتقال الهادئ للسلطة، من خلال مسار بديل، أو ربما موازٍ، وهو مسار «مجلس الدولة»، الذى يندرج تعزيز دوره فى إطار إشكالية تاريخية فى منظومة الحكم الروسية.
على مدار تاريخها لم تكن روسيا يوما تلك الدولة التى يمكن أن يحدث فيها انتقال السلطة فى سياق المؤسسات السياسية، فهى من الدول التى يتوقف فيها الانتقال السياسى على شخصية الحاكم، وهو ما يجعل التساؤلات تدور دوما حول الطريقة التى سيمضى فيها الانتقال المقبل، لا سيما أن النخبة السياسية فى البلاد غالبا ما تتشكل من «نبلاء عند القيصر» وليس «نبلاء مستقلين»، وهو نمط لا تنفرد به روسيا وحدها، بل يمكن إيجاد شكل من أشكاله فى مختلف الدول ذات النمط الشرقي/الآسيوى.
انطلاقا من ذلك، فإنّ أى انتقال للسلطة لا بد أن يجنّب روسيا الخلل فى التوازنات القائمة بين النخب العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ويحصنها فى الوقت ذاته من التأثيرات الخارجية على منظومة الحكم.
هذا ما يعطى تعزيز صلاحيات «مجلس الدولة» أهمية إضافية لكونه الهيئة الدستورية التى من شأنها أن تضبط إيقاع العلاقة بين النخب المذكورة، علما بأنّ كثيرين فى روسيا يؤمنون بأن قوة بوتين الفعلية تكمن فى إتقانه لهذا الدور بالذات.
***
من جهة ثانية، سيقيد النظام الجديد التأثيرات الأجنبية على إدارة روسيا، وأوضح مثال على ذلك هو أن الدستور الروسى ستكون له الأسبقية على الاتفاقيات الدولية، ما يعنى أن المعارضين لن يكونوا قادرين على اللجوء إلى هيئات دولية لتحقيق أجندات داخلية.
علاوة على ذلك، سيقتصر منصب الرئيس على الأفراد الذين أقاموا فى روسيا لمدة لا تقل عن 25 عاما، على أن تُمنع المناصب الرسمية العليا، بما فى ذلك القضاة والوزراء والمحافظون وأعضاء البرلمان، على حاملى الجنسية المزدوجة أو الإقامة الأجنبية.
بذلك، يكون الدستور قد تحرر من القيود التى يرى كثيرون أنها فُرضت من الخارج على روسيا، يوم كانت «دولة مهزومة» فى مطلع التسعينيات، وسيجعل فى الوقت ذاته نظام الحكم محصورا بـ«المواطنين المخلصين» الذين يقيمون فى روسيا، وليس المعارضين السياسيين العائدين من الخارج، أو حتى نخبة رجال الأعمال الذين يملكون طريق فرار محتملا إلى دول مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
حتى اتضاح ملامح الخطوات الإجرائية، يمكن توقع الكثير من المفاجآت التى يفضل الرئيس الروسى إبقاءها فى دائرة الغموض، ولا سيما الخليفة المحتمل، الذى قد يكون مفاجأة تلك المفاجآت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved