«قارئ الجثث».. مذكرات طبيب عظيم

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 28 يناير 2023 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

شُغفت بعالم الطب الشرعى فى فترة الصبا، بسبب مسلسل تليفزيونى أمريكى شهير بعنوان «دكتور كوينسى»، كان يذاع فى السبعينيات، بطله طبيب شرعى ذكى فى منتصف العمر، يحل أعقد الجرائم، قبل سنوات طويلة من ظهور مسلسلاتٍ وأفلام كثيرة، أبطالها من الأطباء الشرعيين النابهين.
لذلك أسعدنى صدور هذا الكتاب المترجم، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، بعنوان «قارئ الجثث»، من ترجمة مصطفى عبيد، الذى أهدانا من قبل ترجمة ممتازة لمذكرات حكمدار القاهرة البريطانى توماس راسل.
فى هذا الكتاب الجديد يهدينا ترجمة لمذكرات الطبيب الشرعى الفذ سيدنى سميث، الذى عاش فى مصر فى الفترة من 1917 إلى نهاية 1927، والذى كان أحد مؤسسى مصلحة الطب الشرعى فى مصر فى العام 1927، واشترك فى العام 1924 فى تأليف أول كتاب باللغة العربية عن الطب الشرعى، بالاشتراك مع الطبيب المصرى عبدالحميد عامر.
صدرت المذكرات بالإنجليزية فى العام 1959، ونسخها صارت نادرة الآن، ولكن عبيد حصل على إحداها، وبدلا من عنوانها الأصلى، وهو «على الأرجح.. قُتل»، اختار لها عنوانا دقيقا هو «قارئ الجثث»، لأن ذلك بالضبط ما كان يقوم به «سميث» فى معامله، حيث يستطيع من خلال بقايا الجثث، أن يجمع أدلة الإدانة أو البراءة، ويمكنه أن يقدم سيناريوهات دقيقة لما حدث بالفعل، والكتاب حافل بجرائم غريبة، لعبت فيها تقارير وشهادات سميث، دورا حاسما فى محاكمة مجرمين فى مصر وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا وسيلان.
سميث، وهو بريطانى ولد فى نيوزيلندا، حكّاء كبير، بالإضافة إلى نباهته الطبية وذكائه وسرعة بديهته، مع لمسات ساخرة ترصع حكاياته أحيانا، فتجعلنا أمام نصوص تنافس قصص شرلوك هولمز، بل إن سميث يحكى عن طبيب شرعى عظيم آخر هو جوزيف بيل، ويقول إنه الأصل الذى استلهم منه آرثر كونان دويل شخصية هولمز الشهيرة.
ولكن الملاحظة المهمة هى أن الكتاب يعيد إحياء عصر وتاريخ بأكمله، بالذات فيما يتعلق بالمجتمع المصرى، فقد أتاحت التحقيقات والمعاينات أن يدخل سميث البيوت المصرية، وأن يرى ظروف الفلاحين الاقتصادية الصعبة، وكان الرجل دوما منصفا بل ومتعاطفا مع المصريين، ويُذكر مثلا أنه اقترح أن تحصل مصر على الحكم الذاتى بعد ثورة 1919، واعتبر القبض على سعد زغلول ونفيه خطأ بريطانيا فادحا.
وعلى الرغم من بشاعة الجرائم التى عاينها فى مصر، وأشهرها جرائم ريا وسكينة، التى اكتشفت فى نهاية العام 1920، فإنه لا يعتبر المصريين متوحشين، ويرى أن معظم الفلاحين بسطاء وسمحاء، ولكنهم لا يتحكمون فى غضبهم، كما أن كثيرا من جرائم القتل تتم بسبب مكائد تعدد الزوجات، ولا يقع سميث أبدا فى خطأ التعميم.
لقد كان حقا رجلا يتحرى العدالة، سواء داخل معامله، أو خارجها.
ما يجعل الكتاب شيقا هو أنه عن الحياة وليس عن الموت، رغم أنه حافل بجرائم القتل والانتحار، لأن الطبيب الشرعى يعيد أيضا إحياء تفاصيل الجريمة، معتمدا على بقايا الأشياء والأجساد، كما أنه يعيد إحياء الأدلة المطموسة.
يمكنه أن يحدد بدقة تفصيلات عجيبة: من عُمر الجثة، ونوعها (ذكرا أم أنثى)، إلى زمن وقوع الجريمة، بل إنه يقدم وصفا تقريبا لكيفية وقوعها.
إنه يتعامل حقا مع الموت، ولكن عمله هو نقيض المحو والقتل والإلغاء، وعندما نعرف أن عظمة صغيرة هى بداية خيط اكتشاف ضحايا عصابة ريا وسكينة، وأن المقذوفات النارية كانت سببا فى الوصول إلى التنظيم السرى الذى قتل السير لى ستاك، وأن ورقة جرائد مهملة دلت على تاريخ جريمة ما، ندرك بالفعل أن الطب الشرعى يعيد إحياء ما بدّده الموت.
مصر حاضرة فى الكتاب ليس فقط من خلال جرائم قتل واغتيال شهيرة، ولكن سميث يتذكرها دوما حتى وهو يفحص جرائم فى دول أخرى، لأن عمله فى مصر منحه خبرة واسعة.
جرائم التسميم بالزرنيخ مثلا فى مصر، كانت مرجعه فى كشف جرائم مماثلة فى بريطانيا وأستراليا، ويتذكر سميث أنه لم يكن يمر عليه يوم خلال وجوده فى مصر بدون عمل اختبار للجثث بحثا عن سم الزرنيخ بالذات، كما تدهشنا الإمكانيات التى وضعت تحت تصرف سميث، ليؤسس معملا مصريا من أكبر وأهم معامل الطب الشرعى فى العالم، بل إن إضافات سميث المهمة والمعتبرة فى مجال المقذوفات الجنائية، كانت نتيجة تعامله المباشر مع ثورة 1919، وما نتج عنها من قتلى وضحايا.
يدهشنا كذلك أن «الخبرة المصرية» جعلته من أوائل من دافعوا عن فكرة ضرورة الحصول على بصمات كل المواطنين، وكان ذلك أمرا غريبا ومرفوضا وقتها فى بريطانيا.
كان الرجل عبقريا بلا شك، ولكنه أحب عمله، ووجد فى البيئة المصرية مجالا للبحث والدراسة والاكتشاف والتأسيس، وسطور الكتاب تنضح بنزاهته وشهاداته العادلة.
هو مثلا الذى اكتشف أن بعض الإنجليز قتلوا برصاص بنادق الحكومة المصرية، وليس برصاص أنصار سعد زغلول، وهو الذى أثبت أن الشرطى المصرى الذى قيل إنه طارد قتلة السير لى ستاك، والذى كرّمه الإنجليز، جاءته الرصاصة فى ظهره، أى إنه كان يهرب من الجناة، ولم يكن يطاردهم، وطلب اللورد اللنبى من سميث كتمان ذلك، وقال له: «إننا نريد بطلا حتى لو لم يكن كذلك».
هذا كتاب يبعث الحياة فى الماضى بدقة مذهلة، وكم كان مصطفى عبيد على صواب بأن يكافئ دقة سميث بدقة مماثلة، تحفظ للنص تدفقه وسرده المشوق، مع مراجعة علمية لضبط المصطلحات الطبية الشرعية، تطوعت بها د. سمر عبدالعظيم، أستاذ الطب الشرعى بجامعة عين شمس.
ومثلما أعاد سميث يوما تركيب جثة من 80 قطعة أشلاء متناثرة، يعيد هذا الكتاب المهم تركيب وقائع تاريخنا المنسى، ويمنحنا دراما هائلة، جديرة بالحفظ والاعتبار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved