«كل شىء هادئ على الجبهة الغربية».. شهادة سينمائية جديدة لمأساة بشرية

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: السبت 28 يناير 2023 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

فى فيلمه «كل شىء هادئ على الجبهة الغربية» يوقظ المخرج إدوارد بيرج صوتا من آهات الحرب العالمية الأولى، لتشكل ملحمته شهادة سينمائية جديدة وملهمة من مأساة بشرية ومشهد مروع من تاريخ لم يلملم أوراق جراحه بعد رغم مرور كل هذه السنوات.
الفيلم المرشح لتسع جوائز أوسكار هو النسخة الثالثة المستوحى من رواية إريك ماريا ريمارك الكلاسيكية المناهضة للحرب، والتى نُشرت بنفس العنوان عام 1929.
الرواية تم منعها فى ألمانيا فى أربعينيات القرن الماضى وطرد مؤلفها بعد سحب الجنسية منه واضطر للعيش فى سويسرا، وهى تصف ــ كما صورها الفيلم ــ الضغوط الجسدية والنفسية والعقلية الفادحة، التى تعرض لها الجنود أثناء الحرب، والانفصال عن الحياة المدنية كما يشعر به العديد من أولئك الجنود لدى عودتهم من الجبهة.
يظهر الفيلم رعب وأهوال الحرب العالمية الأولى من منظور جندى شاب بول بريمر «الذى جسده باقتدار» فيليكس كاميرر«طالب المدرسة الثانوية المراهق». فى ذلك الوقت، كان الفخر بالعسكرى لا يزال مزدهرا فى ألمانيا، كان هذا هو الحال أيضا فى المدرسة، حيث ألهم مدرس بويمر الوطنى الحماسى طلابه «للموت من أجل الوطن».
وهكذا شُجع بومر وزملاؤه على التجنيد فى الجيش، من أجل احتلال باريس وحلم الشاب ورفاقه بالمجد وهم الذين يتشاركون جميعا فى أفكار رومانسية عن الحرب، وفى أرض المعركة سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل من الواقع على الجبهة وكيف تحولت النشوة الأولى للحرب إلى يأس وخوف وهم يقاتلون من أجل حياتهم، وبعضهم البعض، فى الخنادق.
فى النهاية، أصيب بويمر نفسه، وانتهى به المطاف فى مستشفى كاثوليكى، ثم يعود مرة أخرى للقتال متأثرا بحماس قائده وبعد أن أخبره أحد الرفاق المحتضر أنه يجب أن يكون شجاعا، وقد فقد كل زملائه وفى مشهد مؤثر يتحدث بويمر عن تجاربه الحربية وخيبة الأمل ويصفها بالخطأ فى خوضه للحرب وكان عليه أن يسمع كلام أمه الرافضة لذهابه للحرب، لكنه أراد أن يريهم أنه يمكنه فعل ذلك.
المشهد الأخير يحدث فى خريف عام 1918، قبل وقت قصير من نهاية الحرب وقبيل تنفيذ الهدنة ووقف القتال بين الالمان والفرنسيين، فى الخنادق، يصل بويمر إلى فراشه بعد أن يتلقى طعنة بالقلب من قبل جندى فرنسى، ينتهى الفيلم بكلمة بويمر وهو يودع الحياة قائلا: «لا شىء جميل عن الموت» وقد سلطت الكاميرا طويلا على وجهه وهو مغمض العينين وتعكس ملامحه مأساة الحرب كلها، وكأنه رافض للمشهد برمته مع موسيقى موحية بالحسرة التى راح ضحيتها ما يقرب من مليونى عسكرى.
فى وجدان بويمر ورفاقه لم تكن الحرب مستساغة وهو الشعور الذى انتقل إلينا كمشاهدين أيضا، وقد تم تصويررحلة التضحية بجيل ضائع وأحلام زائفة.. يدفع ثمن الحرب بواقعية وبلا هوادة على الشاشة.
«كل شىء هادئ على الجبهة الغربية» فيلم مذهل للغاية، يخطف الأنفاس، بتصويره المذهل لقسوة موتى الحرب فى مقابل قيمة الحياة، عبر لقطات صادمة للمشاعر، السيناريو كان عميقا للغاية والحوار يدعو للتفكير، وموسيقى تصويرية رائعة، قصة آسرة ومشاهد قتالية مبهرة سوف تصبح كلاسيكية دون أدنى شك.
هنا لا يوجد أبطال، فقط الجناة والضحايا. بالتأكيد، إنه عمل مؤلم، لكنه سامٍ بفلسفة صورته، وأناقة أسلوبه وسرده الشيق لأحد أبشع الأوقات فى التاريخ الحديث.
وكان النجاح الباهر لرواية تروى بالتفصيل أهوال الحرب العالمية الأولى لم يرح الاشتراكيين الوطنيين، بعد عام من صدورها، قامت شركة إنتاج أمريكية بتحويل الرواية إلى فيلم أخرجه الروسى الأمريكى لويس مايلستون. فى البداية، تمت الموافقة على الفيلم للمشاهدين الألمان من قبل مجلس الرقابة الأعلى فى برلين فى 21 نوفمبر 1930 وتم عرضه لأول مرة فى أوائل ديسمبر فى «موزارت هول»، وهو مسرح كبير فى برلين، وجذب المثقفين والمشاهير والشخصيات البارزة الأخرى، وكتبت الصحيفة الليبرالية «فوسيشن»: «إنه لم يكن هناك فيلم من قبل كان له مثل هذا التأثير العميق على الحضور، الذى غادر القاعة بهدوء فى نهاية العرض»
ومع ذلك، فى عرض آخر لعامة الناس فى «ليندورف بلاتز» ببرلين، تلاه ردود أفعال من الدهشة والخوف عندما طالب حشد من النازيين الذين تسللوا إلى الجمهور بإيقاف الفيلم وأجبروا أجهزة العرض على الإغلاق، وقام أعضاء الرايخستاخ فى NSDAP، باستغلال حصانتهم البرلمانية، بإطلاق الفئران والقنابل ذات الرائحة الكريهة فى المسرح، مما أدى إلى خروج الجمهور.
كان هذا بناء على طلب جوزيف جوبلز، زعيم NSDAP فى برلين (والذى اكتسب لاحقا سمعة سيئة كوزير دعاية نازى). لقد شعر أن وجهة نظرالفيلم غير المواتية للحرب تتعارض مع الأيديولوجية النازية. كما انتقد الفيلم فى خطاب حماسى فى برلين. فى ديسمبر 1930، «لأسباب أمنية»، سحب مجلس الرقابة الأعلى رخصة عرض الفيلم. ونتيجة لذلك، تعرض المدير اليهودى لمسرح موتسارت، هانز برود نيتز، لرقابة الاشتراكيين الوطنيين، وقتل فى نهاية المطاف فى غرفة الغاز فى أوشفيتز فى سبتمبر 1944. فى يناير 1933، تم حظر «كل شىء هادئ على الضفة الغربية» تماما من قبل نظام هتلر، باعتباره تصويرا لا يرحم للحرب
ومع ذلك، لم يقلل أى من هذا من شعبية الفيلم بين عامة الناس والنقاد. سرعان ما اكتسب شعبية بسبب تصويره الواقعى للأحداث على الجبهة.
حتى أن النجاح الدولى للفيلم تفوق على السياسة الثقافية الفجة للاشتراكيين الوطنيين. فى عام 1931، عادت نسخة مختصرة وخاضعة للرقابة إلى دور السينما الألمانية، لكنها عُرضت فقط لمجموعات معينة من الناس وفى أجواء مغلقة. بعد استيلاء هتلر على السلطة فى عام 1933، تم حظر الفيلم تماما مرة أخرى.
كل هذه المحاولات فى التشهير والرقابة لم تنتقص من نجاح الفيلم ولا يزال يعتبر من أفضل 100 فيلم فى تاريخ الأفلام الأمريكية واستطاع الفيلم أن يحصد الأوسكار كما نال مخرجه لويس مايلستون جائزة أوسكار أفضل مخرج، واعتقد أن النسخة الجديدة من الفيلم لم تخرج خالية الوفاض من جوائز الأوسكار فى مارس القادم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved