الحوار السياسى.. معاييره وشروطه ومساره

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 28 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

مدلولات الكلمات فى حياة البشر والمجتمعات بالغة الأهمية وشديدة التعقيد. وهى من الخطورة بمكان بحيث وصفها المفكر الفرنسى جان بول سارتر بأنها، أى الكلمات، مسدس مملوء بالرصاص. ولكن عندما تستعمل الكلمات بخفة ودون حذر فإن ذلك، كما يقول الشاعر الألمانى جوتة، دليل على غياب أو فشل الأفكار. ولقد أظهر الكثيرون كيف أن الكلمات لا تستقر على حال، فتتبدّل معانيها عبر الأزمنة وتغيُّر الأحوال، بل وتتعرّض للانكسار والعفن والتشويه.

 

•••

 

مناسبة هذه المقدٍّمة هى خَّفة الطرح والتداول لبعض الكلمات فى الساحة السياسية العربية الحالية. من بين أهم هذه الكلمات، والتى تلوكها ألسنة الساسة العرب باستمرار وتتناولها كل وسائل الإعلام العربية ليل نهار، هى كلمة الحوار: الحوار بين المعارضين أو الثائرين وبين أنظمة الحكم، بين أتباع المذهب السنى وأتباع المذهب الشيعى، بين الثقافات والحضارات، بين القوميين والإسلاميين، بين الأقلية والأكثرية، بين أنظمة الحكم وبين منظمات حقوق الإنسان العالمية أو المجالس والوكالات التابعة للأمم المتحدة، وغيرها كثير. لكننا معنيُّون فى الأساس بالحوار السياسى المطروح بشكل كبير وبصوت مسموع عبر الوطن العربى كلٍّه بعد أن زلزل الربيع العربى الأرض ومن عليها وفرض الحوار بين الأطراف المتنازعة كأحد أهمُّ المخارج من وضع الشدٍّ والجذب ومن بلادات الحياة السياسية المتخلفة التى اكتوى العرب بنارها عبر القرون. كلمة الحوار، كونها من الكلمات التى تتغيّر بتغيُّر الألسنة التى تنطقها، لها ظلال وشروط ومسار تحتاج جميعها أن ينتبه إليها.

 

لنتذكر أن كلمة الحوار قد عنت فى الأصل، خصوصا بسبب هيمنة الثقافة الشفهية، تبادلا للآراء والأفكار بين الفلاسفة والمفكرين، ولم يكن الهدف الوصول إلى اتفاق وإنما معرفة ومناقشة أفكار الآخرين.

 

إما فى عصرنا، عصر الثقافة المكتوبة والمقروءة والمسموعة والمشاهدة، عصر تفجُّر وسائل التواصل الهائل، فإن جميع المتحاورين السياسيين يعرفون جيدا أفكار ومواقف الآخرين. من هنا فان الحوار، بالمعنى الذى ذكرنا، يجب أن يكون مقدٍّمة قصيرة وتهيئة للانتقال إلى مرحلة التفاوض الذى يعنى الأخذ والعطاء، الوصول إلى حلول ونتائج، اى إنهاء الخلافات. فى الفكر السياسى قد يقتصر الأمر على الحوار، أما فى الفعل السياسى فلا يمكن الفصل بين الحوار والتفاوض والمساومات والوصول إلى اتفاق وحلول.

 

غير أن سيرورة الحوار ــ التفاوض ــ الوصول إلى اتفاق تحتاج هى الأخرى إلى معايير تضبطها. من هذه المعايير الإجرائية المهمة القدرة على الاستماع بتركيز شديد وليس فقط القدرة على الكلام ببلاغة، منها إشاعة أجواء الاحترام المتبادل بتجنُّب الشطط فى الاتهام واللُّوم والكلمات الغامضة ذات المعانى المتعدٍّدة، والاحترام لا يعنى بالضرورة موافقة الآخر، ومنها عدم التركيز الكبير على ماذا وذلك على حساب كيف. إن ماذا تتعامل مع المواقف بينما تتوجه كيف إلى الحلول.

 

لكن أكبر وأعقد معيار تواجهه مسيرة الحوار ــ التفاوض هو معيار الموضوعية، إذ بدون الموضوعية الصارمة لا ينجح أى حوار. وهنا تكمن بعض الإشكالات. فالموضوعية بالنسبة للأقوياء والمهيمنين هى الرُّضوخ لمقتضيات ومحدٍّدات الواقع، بينما تعنى الموضوعية عند من يمثّلون المهّمشين والفقراء تطبيق مبادئ العدالة والإنصاف فى توزيع الثروات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. هنا يطرح السؤال المفصلى الآتى نفسه وبشدَّة: هل يستطيع أصحاب اليسر والرّفاهية والامتيازات تصوُّر أنفسهم فى مكان الفقراء والمهمَّشين، الذين يتعايشون يوميا مع إذلال كرامتهم وإنسانيَّتهم من أجل لقمة العيش وأدنى أنواع الحياة؟ وإذا كانوا لا يستطيعون تصوُّر أنفسهم فى تلك الأوضاع، فهل بإمكانهم التعاطف مع المطالب الحقوقية والمعيشية التى تطرح فى الحوار؟ وبمعنى آخر هل بإمكان الأقوياء الارتقاء فى سلم الأخلاق والقيم والنُّبل الروحى؟.

 

ليست هذه أسئلة أكاديمية عابثة، إنها فى صميم كل حوار وتفاوض سياسى، وقد نوقشت كثيرا فى أدبيات السياسة. للكاتب ألبرت كامو قول معبّر: عندما تنام القدرة على التخيُّل تصبح الكلمات مفرغة من معانيها.

 

•••

 

عندما لا يفهم الحوار ضمن هذه المعطيات، ومعطيات كثيرة أخرى لا يسمح المجال بذكرها كلّها، يصبح كلمة كبيرة تخيف وتجلب الشقاء كما قال ستيفن بطل قصة يوليسوس الشهيرة للكاتب الأيرلندى اللاّمع جيمس جويس. وكعادة السياسيين الانتهازيين المتخذلقين المحبين للكلمات الكبيرة الرنانة فإنها ستستعمل من أجل ما يصفه المواطنون العاديون بالفهلوة والجمبزة والشطارة وقتل الوقت.

 

ومع ذلك، وبالرغم من كل ذلك، يجب العض على موضوع الحوار السياسى والسير به إلى الأمام وعدم إعطاء الفرصة لمن لا يتنفسون إلا الخصام والفرقة والتمزُق المفجع. ذلك، كما عبر الكاتب توماس مان فى قصة الجبل السحرى «فإن الكلام، أداة الحوار، هو الحضارة نفسها، وأن الكلمات، مهما بدت متناقضة، تبقى على التواصل. أما الصمت فإنه يؤدى إلى العزلة».

 

ويل للقوى السياسية التى تمارس العزلة عن بعضها البعض حين ترفض الحوار.

 

 

 

مفكر عربى من البحرين

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved