«متلازمة» أرض الكنانة!

خالد سيد أحمد
خالد سيد أحمد

آخر تحديث: الجمعة 28 فبراير 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

الاهتمام الذى ناله الرئيس الأسبق حسنى مبارك، خلال تشييع جنازته الأسبوع الماضى، كان مثارا لدهشة قطاع عريض من المصريين، لم يفهم أو يستوعب، كيف يتم كل هذا الاحتفاء والتعاطف مع حاكم تم إخراجه من قصر الرئاسة بثورة شعبية قبل تسع سنوات فقط؟
حالة الاندهاش والذهول لها أسباب كثيرة، أولها أن الدولة المصرية بجميع مؤسساتها، كانت حاضرة بقوة فى قلب المشهد، تصدر بيانات النعى وتعلن الحداد وتنكس الأعلام وتعد ترتيبات الجنازة العسكرية واستقبال الضيوف الذين جاءوا لتقديم واجب العزاء لأسرة الرئيس الراحل.. هذه الدولة نفسها، هى من تخلت عن مبارك فى آخر أيام حكمه، وأيدت ثورة الملايين ضده، وزجت به وبعائلته إلى دهاليز المحاكم، وقضاؤها هو من أدانه بالفساد فى قضية القصور الرئاسية!
ثانى أسباب الدهشة هو ذلك الحزن والألم والتعاطف الذى أبداه بعض المواطنين مع مبارك، وقيام بعضهم برفع صوره خلال الجنازة، ومكتوب عليها «سبت فراغ كبير» و«مع السلامة يا ريس» و«أشرف الرجال» و«الوداع يا حبيب الملايين».. هذا الشعب نفسه هو الذى خرج الملايين من أبنائه فى يناير 2011، لمطالبة مبارك بالرحيل، وهم من مزّقوا صوره ورفعوا لافتات فى جميع الميادين تطالب بمحاكمته على ما فعله بالبلاد خلال ثلاثين عاما فى الحكم من جرائم فى حق المجتمع.
الدهشة التى أصابت البعض، جاءت أيضا من وسائل الإعلام المختلفة، وفى قلبها القنوات الرسمية والصحف القومية، التى سلّطت الضوء بشكل كبير على تاريخ مبارك العسكرى ودوره فى حرب أكتوبر المجيدة، و«إنجازاته» فى مجال البنية التحتية ودعم الاقتصاد ودفع النمو إلى نسبة 8 فى المائة، وهى نسبة لم تتحق من قبل.. نفس هذه الوسائل الإعلامية، هى من كانت تصف مبارك عقب تنحيه عن الحكم بأنه دمّر البلاد وأفقر المصريين وأشاع الفساد وجرّف الحياة السياسية.. هى نفسها من كانت تكتب مانشتات «مبارك فى القفص.. الآن نجحت الثورة»، و«محكمة الجنايات تفضح نظام مبارك.. زمرة من المنتفعين وأصحاب المصالح والمتسلقين تقاتلت على ثروات مصر.. تزييف الإرادة الشعبية واندثار التعليم وإهدار الصحة وتجريف العقول».
مصدر أخير للدهشة تمثل فيما أبداه العديد من السياسيين ومسئولى الكثير من الأحزاب، الذين اعتبروا أن هذا التعاطف الكبير مع مبارك بمثابة رد اعتبار متأخر لبطل حمى بلاده وحرر أرضها وتعرض تاريخه للتشويه بعد «هوجة يناير»، وأنه الأوان لاتخاذ قرار حاسم بإعادة اسمه إلى الميادين ومحطات المترو، التى تم رفعه عنها عقب ثورة يناير، تكريما ووفاء له ولإسهاماته البارزة فى تاريخ مصر، وأن التاريخ وحده هو من سيحكم على الرجل «الذى له ما له وعليه ما عليه» و«اذكروا محاسن موتاكم».. هؤلاء السياسيون للأسف، نسوا أو تناسوا عن عمد أنهم من تولوا إطلاق القذائف على الرئيس الراحل بعد نجاح الثورة، وبعضهم نزل إلى الميادين هاتفا برحيله وضرورة محاسبته على ما ارتكبه من جرائم، ومنهم أيضا من قدم بلاغات ضده زجت به وبأولاده إلى دهاليز المحاكم وغياهب السجون لسنوات!
هذه الحالة الغريبة من التعاطف، والتى تغيرت فيها المواقف والرؤى من النقيض إلى النقيض خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا، إذا عرضتها على علماء النفس طالبا التفسير والإيضاح والشرح المفصل، فأغلب الظن أنهم سيشيرون على الفور إلى «متلازمة ستوكهولم»، التى تصيب الفرد عندما يتعاطف مع عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال، أو تتمثل فى اعتياد وتكيف المجتمع مع بطش السلطة القمعية الحاكمة، وخوفه من إمكانية حدوث أى تغيير جديد، وهى ظاهرة نفسية حدثت فى أماكن كثيرة من العالم على مدى العقود الماضية، ووصلت أخيرا إلى «أرض الكنانة».
فى تقديرى أن «متلازمة» أرض الكنانة، إذا جاز لنا إطلاق مثل هذا التوصيف على ما جرى خلال الأسبوع الماضى، ليست ظاهرة نفسية على الإطلاق، لكنها حالة سياسية فى الأساس، لجأ إليها البعض كنوع من «النوستالجيا» لما قبل ثورة يناير أو الحنين إلى ماضى تلك الفترة التى كانت تتسم بالاستقرار النسبى فى كل مناحى الحياة من وجهة نظرهم، فيما استغلها البعض الآخر للانتقام وتصفية الحسابات مع الثورة التى كانت ثمرتها الوحيدة إزاحة مبارك، وهو ما عبّر عنه أحد الإعلاميين بقوله إن «حزن المصريين على مبارك شهادة وفاة لثورة 25 يناير».
يخطئ من يظن أن الثورات يمكن كتابة شهادة وفاة لها فى أى وقت، لكنها دائما ما تبقى حية فى وجدان وضمائرالشعوب، وتجد طريقها إلى النور عندما يشعر الحاكم بأنه ظل الله فى الأرض، ويتملكه الغرور ويتصور نفسه وصيا على مواطنيه، وأنه الوحيد الذى يحتكر «الحقيقة المطلقة».. هذا ما حدث مع مبارك الذى رحل وقد لا يتذكره كثيرون بعد فترة، لكن «روح يناير» ستظل باقية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved