الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 28 فبراير 2021 - 11:30 م بتوقيت القاهرة

هذا ليس مقالا فى الرثاء، ولا تعدادا لمناقب الراحل الكريم، التى يعرفها كل من عرفه، وحفلت بها مواقع التواصل الاجتماعى على مدى اليومين الماضيين.. بل تذكيرا (بقدر ما تسمح به مساحة هذا المقال) بشىء من كتابات القاضى المنصف والمؤرخ المدقق؛ طارق البشرى، أو بالأحرى بقضايا شغلت باله «وقلمه»، وأحسب أنها جديرة بأن تشغل بالنا وأقلامنا.. إن كان لهذا من سبيل.

ـــــــــــــــــــــــــ

طارق البشري بريشة محمد حجي

لم أكن قد تشرفتُ بمعرفةٍ «مباشرة» بالمستشار طارق البشرى قبل هذا اليوم من خريف عام ١٩٩٥ حين التقيته «شخصيا» للمرة الأولى فى حفل توزيع لجوائز خصصت للصحافة العربية. يومها كان على وشك أن يترك منصة القضاء، بعد أن بدا أن «الواقع» قد لا يحتمل مطلق حياديته «واستقلاليته». ويومها كان قد تم اختياره كمفكرٍ للعام. وكانت بعضُ محاولاتى الصحافية لتأصيل وتوثيق، وللتدقيق فى القصة «الحقيقية» لنشأة تيارات العنف الدينى قد اختيرت لجائزة «التحقيق الصحفى». وكان أن جمعتنا لبعض الوقت طاولةٌ واحدة.. وبحكم المناسبة والبروتوكول صورةٌ تذكاريةٌ واحدة. ويومها استوقفنى هذا القدرُ من الخجلِ الرفيع وتلك الدرجةُ من التواضعِ الجم لدى «مفكر العام». ويومها استغربت كيف كان هذا الصوت الخفيض الهادئ ينطقُ بأحكام صارمة فى عدالتها.. حادة فى استقلاليتها. ويومها أدركت كيف «يمشون على الأرض هونًا».. وتذكرت «العزّ بن عبدالسّلام»؛ القاضى الدمشقى الذى عزله السلطان حين رفض الامتثال لأوامره، مثلما يفعل غيره من الشيوخ والقضاة، وقولته الشهيرة «الحمد لله الذى عافانى مما ابتلاكم به». بعدها حرصت على ألا يفوتنى ما يكتب طارق البشرى. وحين قرأت عرفتُ قيمةَ أن يدرسَ القانونَ من يتصدى للكتابة، فيجيد التسبيبَ والاستنباطَ والتكييف، ويدققُ اللفظ والمعنى. ويبتعدُ بالضرورةِ عن «الكلام المرسل».. وكان طبيعيا أن أجد البشرى من أولئك الذين «يُقَنِّنون» الكتابة.

***

ويومها استغربت كيف كان هذا الصوت الخفيض الهادئ ينطقُ بأحكام صارمة فى عدالتها.. حادة فى استقلاليتها

ترك البشرى وراءه مقالات وكتبًا (وأحكامًا)؛ مؤسسة ومُعلمة: فى التأريخ لمصر؛ وقائع وأحداث، وفى الحلم لمصر؛ بديموقراطية حقيقية، وفى التعريف؛ الذى نخشى أن تختل بوصلته «للأمن القومى»، وفى التأصيل؛ لضبط حركة المجتمع، وضمان أمنه وسلامته؛ تقنينا، واستقلالا «حقيقيًا» لمؤسسة القضاء، التى انتسب لها، وحرص كل الحرص على كرامةٍ وعدالةٍ رأى أنها لن تتوفر لها، ومن ثم للمجتمع بأسره إلا إذا توفرت لها منظومة مؤسسية وقانونية، تبعد بها عن أى تأثير قائم أو محتمل لسيف المعز وذهبه، أيا كان رداء المعز، أو لقبه، أو زمانه.. أو «حجته» فى أن تصل يده إلى ما لا ينبغى أن تصل إليه، متصورًا، بحسن نية أو بغير ذلك أن فى هذا (وحده) صالح البلاد والعباد.

***

قبل سنوات، كنت قد سمعت من طارق البشرى حكاية عن أبيه رحمه الله (قصها بعد ذلك على قراء «وجهات نظر» فى مقالة مهمة عن القضاء: مارس/آذار ٢٠٠٣). يحكى لنا البشرى أنه كان فى الخامسة عشرة وقت أن كان والده المستشار عبدالفتاح البشرى رئيسًا لإحدى دوائر الجنايات الثلاث بمحكمة الاستئناف بالقاهرة. وتصادف أن اغتيل المستشار أحمد الخازندار فى الحادثة المعروفة (عام ١٩٤٨)، فرأت الحكومة أن تقدم سيارة بحرس إلى كل من أعضاء هذه الدوائر. إلا أن القضاة الثلاثة بعد أن تباحثوا الأمر بينهم اتفقوا جميعا على عدم قبول العرض. وكانت حجتهم التى سمعها الابن من أبيه، أنه كيف يسوغ أن يرى المتقاضون قاضيهم خائفا يحتاج إلى حراسه؟ وكيف يطمئنون إليه وإلى حيدته فى مثل هذه الحال؟ ثم قال موجزا: «إن شرعية القاضى عند الخصوم الماثلين أمامه أنهم يطمئنون إلى حياده، وأن قوته ومنعته فى هذا العدل وذاك الحياد».

ثم يبسط لنا البشرى فى مقال آخر (يونيو/حزيران ٢٠٠٥) علاقة القاضى بالمتقاضين: «عندما تجلس على منصة قضاء، ويقف أمامك الخصوم بمنازعاتهم يتجادلون ويتخاصمون، وكل يرد على الآخر حجته، تعرف أنهم لم يتفقوا على شىء قط إلا أنهم يطمئنون إليك، … وإذا أمكن لك أن تستطرد فى التأمل، فستعرف أنهم لولا ثقتهم فى حيدتك واستقامتك، ولولا ثقتهم فى قدرتك على أن تحكم بما تقتنع بأنه الحق والصواب، لما أتوا إليك».

ثم يطرح طارق البشرى علينا السؤال المحورى: ما الذى يحدث إذا لم يأتوا إليك، والحال أن لكل منهم حقًا يدعيه لنفسه أو أنه يشكو من ظلم يطلب رفعه عنه، وهو فى حال ضرورة أو احتياج لاقتضاء حق يدعيه أو لرفع ظلم يعانى منه، … الذى سيحدث هو أنه سيسعى لاقتضاء حقه بيديه، أى إنه سيلجأ للعنف إن عاجلا أو آجلا. … والأمر هنا أمر سمعة واطمئنان وثقة، بالمعانى الجماعية لهذه الكلمات، ويبقى لدى أفراد الجماعة الاستعداد للتحاكم ما بقيت هذا المعانى مستقرة».

لم أنس أبدًا كلمات البشرى تلك المحذرة من خطورة إسقاط مهابة منصة «وميزان عدالة» لو شاع بين الناس اهتزازه لما اطمأنوا أبدا للجوء إليه. ولعمد كل منهم إلى أن يأخذ حقه «أو ما يتصور أنه حقه» بيديه، ولفشلت «الدولة» التى هى بالتعريف مؤسسة لتنظيم حياة الناس.

فى الدراستين المطولتين، أسهب القاضى فى شرح حيثياته، وفصل الباحث المدقق معالم الطريق (المؤسسى والقانونى) لضمان العدالة التى يطمئن إليها الناس، فيستقر باطمئنانهم المجتمع.

إذ لا جدال (والكلام هنا للراحل الكريم) إن الأمن الاجتماعى يحتاج إلى نظام قضائى مستقيم ومقتدر.

مفصلا: إن هذا النظام ليس مطلوبًا فقط لكفالة الحقوق ورد المظالم، إنما هو مطلوب للأخطر وهو كفالة انتظام الجماعة فى شئونها وحفظ القدر الكافى لتماسكها واطراد سيرها.

ومحذرا: إن تنظيمًا مؤسسيا أو مسلكًا سياسيا يعمل على أن يفرغ العمل القضائى من المحتوى الخاص بهذه المعانى قد يكون هناك من ينتفع، أو يتصور أنه ينتفع به فى المدى القصير، ولكنه يكون قد هدّ من أسس البنية التحتية للجماعة الحضارية، ويكون قد هدم من أسس نظام الحكم ذاته، إنه يكون مثل التاجر الذى أساء استغلال الاسم التجارى بوضعه على «بضاعة» فاسدة. فلا راجت البضاعة، ولا احتفظ الاسم بدلالته وقيمته، معناه.

«لا قضاء إلا إذا كان مستقلا» بدهية نعرفها جميعًا، ولا تحتاج إلى إثبات. ولكننا عرفنا مع البشرى، أو بالأحرى فى كتاباته كيف يكون ضمان هذا الاستقلال «مؤسسيًا». كما عرفنا أن «استقلال القضاء» ليس ريشة على رءوسهم، أو مزية لهم، بل هو ضمان للعدل الذى هو ضمان للأمن ولاستقرار المجتمع.

وأن تحصين القاضى ما هو إلا ضمان للمتقاضى. وأن حصانة القاضى فى عدله. أكرر: «حصانة القاضى فى عدله».

***

عرفنا من البشرى أن «لا قضاء إلا إذا كان مستقلا».. وأن «استقلال القضاة» ضمان للأمن ولاستقرار المجتمع، ولقوة الدولة 

قد لا يتسع المجال هنا للحديث عن انشغال البشرى الدائم بأهمية «البحث عن المشترك» بين أطياف المجتمع السياسية والفكرية، كشرط لازم لمناعة الدولة وقوتها (يُرجع فى ذلك إلى كتابيه: «الجماعة الوطنية»: ٢٠٠٥، و «نحو تيار أساسى للأمة»: ٢٠١١. كما لن يتسع لأكثر من إشارة واجبة، إلى كتابه؛ المرجع فى مفهوم المواطنة: «المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية»، والذى تقترب صفحاته من الألف (كان أول من دلنى عليه الصديق والكاتب المغترب فكرى أندراوس، مدللا على أهميته)، وإلى كتابه الضخم «الحركة السياسية فى مصر» المؤرخ للسنوات العشر التى سبقت يوليو ١٩٥٢، أو بالأحرى للفترة التى تبدأ بنهاية الحرب العالمية الثانية وتنتهى بقيام ثورة الثالث والعشرين من يولية، إلا أن الكتاب الصغير «العرب فى مواجهة العدوان» والصادر عن دار الشروق عام ٢٠٠٢ عشية أحداث الحادى عشر من سبتمبر، وقبيل الغزو الأمريكى للعراق، وما صاحب ذلك كله من إلقاء الضوء على ثنائية الاستبداد والاحتلال، وكيف أوهنت أنظمة الحكم الديكتاتورية فى عالمنا العربى دولها، فأصبحت مطمعا بعد أن افتقدت أهم عناصر قوة الدولة؛ «الديموقراطية الحقيقية»، يستحق إعادة القراءة خاصة ما يتعلق بخطورة غض الطرف عن «الخطر الإسرائيلى»، والغفلة عن أهمية «العمق الفلسطينى» لأمننا القومى، وتحذيره من محاولات لمحو قضية العرب المحورية فى فلسطين «نهائيًا». 

بعين «المؤرخ» يلاحظ البشرى أنه «بالرجوع إلى تاريخ نصف القرن الأخير لمصر، فإننا لا نكاد نرى أمرًا واحدًا تلتقى عليه سياسات الملك فاروق عندما كان يحكم مصر، ومصطفى النحاس زعيم حزب الوفد وقتها وخصم الملك فاروق، وجمال عبدالناصر الذى خلع الملك فاروق وأزاح النحاس والوفد، لا يوجد ما التقت فيه سياسة هؤلاء الثلاثة إلا أهمية فلسطين لمصر … واستشعار الخطر على أمن مصر من الوجود الصهيونى عند حدودها الشمالية الشرقية».

***

كان قدر البشرى، كما قدر كل المنصفين فى تلك الأيام الغائمة الصعبة أن نالته سهام المستقطَبين من الجانبين

وبعد..

فلعلى، اقتفاءً لأثر الراحل الكريم، فى «البحث عن المشترك»، تجنبت عامدا الإشارة إلى كتابه الأخير عن «ثورة يناير.. والصراع حول السلطة»، إذ كان قدر البشرى، كما قدر كل المنصفين فى تلك الأيام الغائمة الصعبة أن نالته سهام المستقطَبين من الجانبين. والذين، لا يسمعون عادة إلا أنفسهم (أو ما يرضيهم)، متمترسين خلف ما بنوه من أسوار عالية (وطبول مدوية) ليس لها أن تسمح بأصوات الناصحين «هادئة النبرة»، مهما اتسمت بمنطق أو حكمة.

ليت القاذفين للرجل، والمتقاذفين فيما بينهم قرأوا مقاله فى هذه الصفحة من هذه الجريدة قبل عشر سنوات كاملة، والذى اختار له يومها عنوانا كاشفا.. ومتنبئا: «الخائفون من الديموقراطية» 

كانت «الديموقراطية»؛ تأريخا وتأصيلا هم الرجل طوال نصف قرن من الزمان.

ثم كان، بضمير قاضٍ، لا بإملاء سلطةٍ أن وضع اللبنات (الأولى) لتحول ديموقراطى لازم لإنجاح أى ثورة، قبل أن يعصف باللبنات وبالبناء كله زلزال، وأعاصير، وبراكين. 

حَمّله المخدوعون؛ غير المدركين لما كان خافيًا من حقائق وزرَ ضياع أحلامهم، ولم يطق المغترون بقوتهم كلمةَ حق على لسان قاضٍ؛ نحسبه (الواحدَ بين الثلاثة).. ولا نزكى على الله أحدًا. 

رحم الله طارق البشرى، وجعل ما تركه من علمٍ، وولدٍ، وطيب أثرٍ فى ميزان حسناته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Instagram: @a.sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

هذه الصورة

ــ من يحرس العدالة .. والوطن؟

الظلم .. «الاحتياطي»

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

االرسوم:

١. المستشار طارق البشري بريشة الفنان محمد حجي

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved