فن شيطنة الآخر

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الأربعاء 1 مارس 2023 - 7:58 ص بتوقيت القاهرة

فى سنة 1975 عُرض الفيلم «الفك المفترس» Jaws عن قصة الكاتب الأمريكي Peter Benchley من إخراج المخرج العظيم Steven Spielburg. يدور الفيلم الذى حقق نجاحا جماهيريا باهرا حول سمكة قرش بيضاء كبيرة هاجمت الشواطئ الأمريكية. ساهم الإخراج المتميز لسبيلبرج والتصوير الرائع بكاميرا المصور Bill Butler ــ الذى جسد لحظات الرعب التى صاحبت انقضاض سمكة القرش على ضحاياها ــ والموسيقى التصويرية التى وضعها John William التى فازت بالأوسكار فى ترسيخ الخوف والنفور من أسماك القرش وتحويلها من كائن من الكائنات التى خلقها الله إلى مرادف للتوحش والشر.
يلاحظ أن كاتب قصة الفك المفترس وكل القائمين على تحويلها إلى فيلم سينمائى من البشر، لذا من الطبيعى أن تكون شهادتهم مجروحة ومنحازة لبنى جنسهم وينفرون من كل من يصيبهم بالضرر، فماذا لو تصورنا أن أسماك القرش كتبت رواية وحولتها إلى فيلم سينمائى من وجهة نظرهم تسجل حقيقة أن عدد الحالات المؤكدة التى قتل فيها إنسان بين فكى سمكة قرش فى العام لا تتجاوز تسع حالات، وعدد الحالات التى هوجم فيها إنسان من سمكة قرش دون أن يقتل لا تتجاوز 57 حالة فى العام فى حين أن عدد أسماك القرش التى يقتلها الإنسان سنويا تتجاوز مائة مليون سمكة، فمن حق أسماك القرش أن تسأل من هو الشيطان الشرير، أهو الإنسان أم هو سمكة القرش؟!
• • •
إلا أن الإنسان لم يكتف بشيطنة القرش وحده بل ذهب إلى شيطنة كل من ينافسه ويعاديه. ولأن الغرب امتلك ناصية الإعلام والنشر والسينما فعمد منذ زمن إلى شيطنة الشرق. ومن الأمور المستفزة تناول الأدبيات الغربية لهزائم الفرس أمام اليونانيين فى معركة ماراثون عام 490 ق.م ومعركة سلاميس عام 480 ق.م أنها أنقذت العالم من البربرية الشرقية وحافظوا على الحضارة الغربية، علما بأن الإمبراطورية الفارسية فى هذا الوقت كانت لا تقل عن الحضارة اليونانية ولعلها فاقتها فى عدد من النواحى. كما هللت الأدبيات التاريخية الغربية لانتصار الإسكندر الأكبر على الفرس فى معركة Guagamela فى عام 331 ق.م زاعمة أن هذا الانتصار فتح الباب أمام نشر المدنية والحضارة فى العالم، وحقيقة الأمر أن الإسكندر لم يكن ناشرا للحضارة بقدر ما كان متعطشا للفتح والحرب والنهب، فالإمبراطورية التى أسسها بالسيف وإراقة الدماء لم تصمد إلا سنوات معدودة. ولعل أبرز معالم تعطشه للنهب أن أول حالة تضخم رصدها التاريخ فى حوض البحر المتوسط كانت بسبب وفرة الذهب الذى نهبه من الإمبراطورية الفارسية، كما أن سجله الإنسانى يلطخه قتله ثمانية آلاف أسير فى مدينة صور استسلموا له بعد أن أمنهم على أنفسهم بعد حصار دام سبعة شهور فى عام 331 ق.م، وكان الإسكندر نقطة الفصل بين الحضارة اليونانية التى قامت على الجمهوريات الديمقراطية فى الـ city states وبين الهيلينية التى قامت على الملكية المطلقة فى الإمبراطوريات.
أما عن الجناح الآخر لأصل الحضارة الغربية روما فحدث عنه بلا حرج، فعندما انتصرت على قرطاج قام الجيش الرومانى بقيادة Scipio فى عام 202 ق.م بمحو عاصمة قرطاج من الوجود ولم يتركوا حجرا على حجر وهو عمل لعله يفوق تدمير هيروشيما ونجازاكى بالقنابل الذرية وهى مدن هامشية صغيرة، أما قرطاج فكانت من أكبر عواصم العالم القديم وأكثرها ازدهارا. ناهينا عن صلب أكثر من ستة آلاف من أنصار سبارتاكوس قائد ثورة العبيد بعد استسلامهم فى عام 71 ق.م، ثم يمم الرجل الأوروبى المتحضر شرقا بعد أن اكتشف البرتغالى فاسكو دا جاما فى عام 1499 الطريق إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح، فما لبث المتحضرون أن حولوا ممالك ساحل مليبار المزدهرة فى الهند ــوالتى تبادلت التجارة مع العرب لأكثر من 500 عام ــ إلى مستعمرات وعاثوا قتلا ودمارا فيها للاستفادة ببهاراتها وحريرها وعاجها وذهبها. ولم يكتفوا بالشرق بل اتجهوا غربا بعد أن عرفوا أمريكا من قبل كريستوفر كولومبوس. فأبادوا الهنود الحمر ولم يكتفوا بذلك بل شيطنوهم فى سلسلة أفلام الويسترن وصورهم كبرابرة متعطشين للدماء، واتجهوا جنوبا فأبادوا ممالك وإمبراطوريات زاهرة: الآزتك والمايا فى المكسيك والأنكا فى بيرو. ومن أجل زراعة القطن وقصب السكر فى العالم الجديد جلب الرجل الأبيض المتحضر ملايين العبيد من أفريقيا مات منهم ملايين أثناء نقلهم فى السفن وعوملوا معاملة الدواب.
ولعل الأنكى من ذلك أن الرجل الأبيض الأوروبى حاول أن يبرر ما ارتكبه من فظائع وجرائم بأنه خدمة للبشرية ونشر للحضارة والتمدن، وجاء ذلك فى القصيدة التى صاغها شاعر البلاط الإنجليزى روديارد كيبلينج فى عام 1897 فى مناسبة يوبيل الملكة فيكتوريا فى أوج العصر الاستعمارى واصفا الاستعمار بأنه «عبء الرجل الأبيض» White Man Burden. ومن المفارقات أنه بالرغم مما تمثله القصيدة من تمجيد للإمبريالية والعنصرية والظلم فقد فاز كيبلينج بجائزة نوبل فى الأدب فى عام 1907.
لم يسلم الرجل الأبيض المتحضر من نفسه ولم يكتف بما فعله فى أجناس البشر الأخرى، لكنه شن الحروب البربرية ضد بنى جنسه من الأوروبيين حاملو عبء الرجل الأبيض، فشهدت أوروبا حروبا يشيب من قسوتها وما خلفته من موت ودمار لها الولدان، منها حرب المائة عام وحرب الثلاثين عاما والحروب النابليونية وحرب القرم والحربين العالمية الأولى والثانية. وبعد الحرب العالمية الأولى نشطت الأجهزة الدعائية للحلفاء لشيطنة ألمانيا بدعوى مسئوليتها عن الحرب رغم أن روسيا وبريطانيا يحملان الوزر الأكبر، كما أدانوا ألمانيا لأنها كانت البادئة باستخدام الغاز السام فى الحرب رغم أن فرنسا كانت البادئة باستخدامه فى معركة Ypres عام 1915 ولم يمنع تنديد الحلفاء بوحشية استخدام الغاز السام بريطانيا من قصف الثوار فى ثورة العراق عام 1920 بالغاز السام وكانت المرة الأولى الذى تقصفه الطائرات بعد أن كان استخدامه فى الحرب العالمية الأولى بواسطة الألغام الأرضية والمدفعية، وكررت فرنسا وإسبانيا الجريمة فى حرب الريف فى المغرب عندما قصفا القوات المغربية بقيادة عبدالكريم الخطابى بالغازات السامة.
ومن المفارقات أن عالم الكيمياء الألمانى Fritz Haber الذى أشرف على إنتاج الغاز السام واستخدامه فى ميادين القتال أثناء الحرب، مُنح لاحقا جائزة نوبل فى الكيمياء! واستمرت حملة شيطنة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لعل أبرزها كان فضح معسكرات الاعتقال. ورغم أن أحدا لا يمكنه إنكار همجية معسكرات الاعتقال الألمانية، إلا أن كُتاب التاريخ المنتصرون يتغافلون عن ذكر أن مصطلح معسكرات الاعتقالconcentration camps صاغه الإنجليز أثناء حرب البوير عام 1900 حيث أمر الجنرال Allenby بإقامة معسكرات توضع فيها أسر المقاتلين من البوير من نساء وأطفال وشيوخ مات منهم الآلاف من سوء التغذية والجوع والأمراض، وتبين كتب تاريخ الحرب صور نزلاء المعسكرات وقد برزت ضلوعهم وجحظت عيونهم من سوء التغذية بشكل مشابه لنزلاء معسكرات الاعتقال النازية.
• • •
بعد هذه الديباجة والمقدمة الطويلة لعل القارئ يتساءل عن الهدف من السرد الطويل وقد وصلت إليه أخيرا.
إنه احتجاج على كوننا صرنا كسمكة القرش الخرساء البكماء التى قبلت شيطنتها رغم أنها ضحية يُقتل منها مائة مليون سنويا، واحتجاج على عدم تحركنا لإظهار ما تعرضنا له من ظلم.
أتساءل كم فيلم وكم كتاب تناولوا المحرقة أو الهولوكوست، وكم فيلم تناول النكبة، وهل أقمنا متحفا للنكبة كالمتاحف التى أقامتها إسرائيل للمحرقة وتجبر زائريها على زيارتها؟ كم قصة وكم فيلم أنتج عن الطفلة آنا فرانك، وكم فيلم أنتج عن الطفل محمد الدره؟
أنتجت هوليوود فيلم الهروب الكبير فى عام 1962 جمعت فيه صفوة النجوم وأخرجه أحد أشهر المخرجين John sturges الذى أخرج لاحقا فيلم العظماء السبعة. يتناول الفيلم محاولة هروب جماعى من معسكر أسرى ويقوم الألمان بإعدام الأسرى العزل بعد القبض عليهم. لم نفكر فى إنتاج فيلم عن إعدام الأسرى المصريين فى سيناء، التى سردها علينا جنرالات الجيش الإسرائيلى دون أن نتحرك أو حتى نقيم لهم نصب تذكارى فى سيناء.
اتحفتنا أفلام ثورة وارسو ضد الاحتلال الألمانى ولم نرَ فيلما واحدا عن مذابح دير ياسين وقبيا وصبرا وشاتيلا. يصعب علينا إحصاء عدد الأفلام التى أظهرت معاناة بريطانيا من القصف الجوى الألمانى أثناء الحرب فيما أطلق عليه اسم الـ Blitz متغافلين عن قصف مدن ألمانيا هامبورج ودرسدن وقصف اليابان بالقنابل الذرية والغارة على طوكيو بالقنابل الحارقة التى فاقت ضحايا القصف الذرى، فضلا عن القصف الوحشى لفيتنام. ولم نفكر فى إنتاج أفلام عن قصف الإذاعة المصرية وسجن أبو زعبل فى حرب 1956، ولا عن جريمة الحرب البشعة فى قصف مدرسة بحر البقر ومصنع أبو زعبل فى حرب الاستنزاف.
دعونا نهب من غفوتنا ونرفض شيطنتنا ونرفض أن نكون سمكة القرش الملعونة، دعونا نكشف الوجه الآخر للعملة ونُظهر الحقيقة حتى لا نفقد تعاطف العالم معنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved