يوم تُحصى السنوات

محمد موسى
محمد موسى

آخر تحديث: السبت 28 مارس 2009 - 7:19 م بتوقيت القاهرة

 على كارتون نتيجة الحائط كتب والدى تاريخ ذلك اليوم البعيد، ولم يذهب من ذاكرتى قط: 17 يوليو 1969.

كنا نستعد لصلاة الجمعة فى مسجد القرية البسيط. نفرح كل جمعة بالإجازة من العمل، نزهو بالحمام والملابس النظيفة، وبالتميز على بنات العائلة، فالأولاد فقط مسموح لهم بالصلاة.

ثم زلزلت الأرض بصوت الصرخة الأولى لطائرة الفانتوم الإسرائيلية.

كانت قريبة جدا، كأنها فى وسط البيت، فارتمينا كلنا على الأرض من هول الزئير وضغط الهواء التالى للانفجارات القريبة.

بحثنا عن الكبار الذين أخذتهم الصدمة، فاحتضنوا أصغرنا، وهرعوا إلى غرفة «المقعد»، وأغلقوا علينا الباب، وكأنه مخبأ. عادت الطائرات عدة مرات لتكرر القصف، وظللنا بعد الموجة الأخيرة من الانفجارات صامتين، لا نصدق أنها انتهت، وأننا نجونا، لأننا تأخرنا عن صلاة الجمعة.

بالضبط، كانت إسرائيل تستهدف مسجد القرية، مع كوبرى بجوراه يربط القاهرة ببورسعيد، لكنهم اختاروا ساعة أذان الجمعة؛ لأن قتل بعض الفلاحين مع تدمير الكوبرى هى قصة نجاح على الطريقة الإسرائيلية.

لم تكن مصادفة، فقد تكرر القصف مرة ثانية يوم الجمعة لحظة الأذان، نجحوا فى تحويل المسجد إلى حفرة، لكن بعد أن امتنع أهل البلد عن الصلاة فيه بعد الغارة الأولى.

مرت سنوات كثيرة على المشهد، غير أن الطائرات الإسرائيلية تصرخ حتى الآن فى كوابيسى، فتقصف مدينة الطلبة فى بين السرايات، أو تتجول بين أبراج المعادى. وتختار ضحاياها دائما من أهلى: فلاحون يغسلون صغائر الأسبوع فى سكينة صلاة الجمعة، وطلاب جامعة يحلمون بتغيير الدنيا على الأقل، وبنات يعتبرن أن مشوار الأتوبيس النهرى بجوار الحبيب هو الدنيا بحذافيرها.

أرغمتنا المدرسة الثانوية على استقبال السادات لدى عودته من القدس وهو يخترق شوارع الإسماعيلية فى سيارة مكشوفة. وأجبرنى العمل فى وسائل الإعلام غير المصرية على الحديث مع إسرائيليين، لكن طائراتهم ما تزال تطارد أهلى فى اليقظة والمنام، ورأيى فى أخلاقهم لم يتغير.
أطلق الفراعنة على القيامة تعبير «يوم تُحصى السنوات»، أى اليوم الذى يحاكم فيه الإله العظيم كل الأرواح، ويحصى عليها ما فعلت، وما لم تفعل. وقبل أيام بدأت عملية إحصاء واسعة لسنوات «السلام» معهم، وكتبت الصحف أكثر من كل عام؛ لأن كامب ديفيد قد أكملت 30عاما. ولاحظت أن أكبر المدافعين عن السلام لم يجد منطقا واحدا لما عانيناه منهم، قبل المعاهدة وبعدها.

يوم تحصى السنوات، سأقول: يا سيدى إنهم بلا أخلاق، فى حربهم كما فى سلامهم.

سأقول: صواريخهم تقصف مسجد قريتى كل ليلة فى منامى، وترمينى منهكا إلى عناوين الصحف اليومية التى أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب، ولا ينقصنا سوى تحويل الاعتداءات الإسرائيلية إلى صفحات الحوداث، شئون داخلية يعنى.

وسأقول فى اعترافى الأخير: إننى كرهتهم؛ لأنهم يكرهون الجميع: الفلاح الذاهب لصلاة الجمعة، والطالب الطموح، والبنات العاشقات على كورنيش النيل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved