أفضالى تغمركم

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: السبت 28 مارس 2015 - 12:00 م بتوقيت القاهرة

انتخابات فى أكثر من مكان، جمعيات عمومية، أصوات تذهب هنا وهناك، أوراق يوزعها صبية ويتلقفها ناخبون مفترضون يُلقى بعضهم عليها نظرة عابرة، ويكورها آخرون ويتخلصون منها دون أن يعنوا بمطالعة ما تحويه. على مدى أسابيع ثلاثة امتلأت حقيبتى بدعاية تخص عددا من المرشحين لمجالس إدارات نقابات واتحادات ونوادى وجمعيات، وصلنى بعضها عن طريق الخطأ بينما أصاب البعض الآخر الطريق، وعلى طريقة انتخبونى فأنا خير من يمثلكم، تلقيت اتصالات هاتفية متتالية يطلب منى أصحابها أن أعطيهم صوتى فى الانتخابات الوشيكة.

***

لم تحمل غالبية أوراق الدعاية التى احتفظت بها برامج أو أفكار يقدمها المرشح، وقد اقتصرت على ما يشبه السيرة الذاتية المبتسرة، أما الاتصالات فلم يذكر أى من أصحابها لماذا يسعى إلى المنصب، وما الذى سيقدمه أو ما الذى يمتاز به دون الآخرين. بدا أن المكالمات جميعها متناسخة لا فارق بين محتوى مكالمة وأخرى؛ يتأكد المتصل من اسم من يهاتفه، ومِن نيته حضور الانتخابات، ثم يذكر اسمه ورقمه؛ أى رقمه كمرشح، ويختتم المكالمة بعبارة من قبيل: «يا ريت صوت حضرتك ليا الأسبوع الجاى».

بالنسبة لى استوى أولئك المرشحون الذين تواصلوا والذين لم يتواصلوا عبر المحمول، إذ لم أجد فضلا لأحدهم على آخر سوى تلك الجنيهات التى أنفقها الأول فى الاتصال، ووفرها الثانى ولم يكن هذا الأمر باعثا على الشعور بالامتنان لأيهم، ولا عاملا مِن العوامل المؤثرة فى الاختيار.

تَكَرَّمَ شخصٌ واحدٌ واستجاب لرغبتى المُلِحّة فى معرفة لماذا يجب أن أختاره هو تحديدا رغم إنه ليس المرشح الوحيد، وليس المتصل الوحيد؛ ومِن ثمّ راح يسردُ مشروعا تلو الآخر ويعد بتحقيقها جميعها فور نجاحه فى الانتخابات. ثمة امرأة هاتفتنى تطلب صوتى لا لشخصها بل لآخر أسمته فى المكالمة، وعرفتنى بنفسها كإحدى عضوات حملته.

لاحت فى صوتها دهشةٌ أعقبها ارتباكٌ حين سألتها على استحياء إن كان هناك برنامج مكتوب للمرشح الذى تطلب منى دعمه. عاجلتنى بسؤال تلقائيّ: «وليه يبقى مكتوب؟ ما كله بيتكلم». بعد إصرار منى قالت إنها ستبحث الموضوع وتخبرنى بما تصل إليه. مرشحٌ ثالثٌ صمت ولم يرد على سؤالى وكأنه تلقى إهانة عبر محاولتى استكشاف ما يتميز به عن الآخرين، وعبر استفهامى عما له من أفضال وأياد بيضاء على الناخبين وسرعان ما أنهى المكالمة.

***

الفَضْل فى لسان العرب هو نقيض النَقْص، والشخص الفاضِل هو بطبيعة الحال صاحب الفَضْل، أما التَّفاضُل بين الناس فهو أَن يكون بعضهم أَفضَل من بعض، وإذا غلب أحدهم الآخر قيل إنه فَضَل على غيره. ربما كان «الفضل» قيمة نسبية يمكن الاختلاف عليها؛ أذكر إنه فى اجتماع دورى للجنة رسمية مِن اللجان الكثيرة التى يزخر بها فضاء العمل الثقافى والعلمى، اقترح عضو أن يتم تكريم المتخصصين فى أحد مجالات العلوم الإنسانية ممن بلغوا السبعين مِن العمر، كان هناك مَن وافق ورَحَّب، وكان هناك أيضا مَن اعترض. سمعت بنفسى أحد المستهدفين بالتكريم يُعَلّق:«وهل لى فضل كونى بلغت السبعين وتخطيتها؟».

فى حال التنافس يفاضل الناس بين المتنافسين بتقدير مواقف وأفعال وإنجاز واجتهاد كل منهم، مع ذلك ربما لا يفكر البعض فى أهمية وجود ما يميزهم ويُثقِلُ كفَّتَهم ويجعل لهم الفضل مِن عدمه، وعلى العكس ربما يبالغ البعض الآخر فى تقييم مآثره وأفضاله. اعتبر المتّصلون على المحمول إن مجرد اتصالهم الشخصى بالناخبين هو فضلٌ عظيم، واعتبر الراغبون فى تكريم ذواتهم إن بلوغهم السبعين فضلٌ أيضا عظيم، وكلاهما بحث عن مكافآة ينالها عن فضله هذا. ثمَّنت مواقفَ بلغ التواضعُ وإنكارُ الذات بأصحابها أن أعلنوا استحقاق آخر لجائزة نالوها، أو تكريمٍ أصابهم، أو ثناء وقع على شخوصهم، ورغم ما لهم مِن أفضالٍ كثيرة فإنهم ما برحوا يستحون مجرد الحديث عنها، ويطلبون مِن الآخرين ألا يفعلوا.

***

فى بعض الأحوال يسهو المسئولون عن وجود مَن يراقب تصرفاتهم، فيتركون لأنفسهم حرية الكلام. بعضهم يزلُّ لسانه ويتلفّظ بما يفضح مكنون صدره فيطل على الناس مِن موقع صاحب الفضل العظيم، يحدث هذا كثيرا بغض النظر عما قد يشوب أداءه مِن قصورٍ، وما يعترى أفعاله مِن نواقصٍ، وما يُحرِزُ مِن إخفاق.

لا يفتأ أحدهم يُذَكّر الناس بأفضاله عليهم، وبأن وجوده نعمة مِن نعم الحياة. رأينا مِن المسئولين مَن يتعدّى على نفرٍ مِن المواطنين متهما إياهم بنكرانِ الجميل، وبعدم الاعتراف بأفضاله، ورأينا مَن يهينهم لمجرد مُطالبتهم بحقوقٍ يرى فيها جحودا وتجاوزا للحدود. أمر مدهش أن يعتقد إنسانٌ فى نفسه فضلا لا يراه الآخرون.

للدولة فضل توفير الأمان وهى تذكّرنا بهذا الفضل كل يوم ولا تكُفّ عن طلب المقابل. يتصور كثيرٌ مِن الحُكّام إن أفضالهم ومآثرهم تغمر الشعوب، وإن وجودهم فى حد ذاته فضل منهم، وإن غيابهم مرادفٌ للخراب والفناء. ذهب هؤلاء وبقى الكون على حاله فلا هو خرب ولا هو فنى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved