النجمة العاشرة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 28 مارس 2019 - 11:25 م بتوقيت القاهرة

التصقت الصغيرة بأمها حتى صارت دقات قلبها تُسمَع في جنب الأم، هذه ليلة لن يغمض فيها جفن الاثنتين معا فعندما يشرق الصباح ستكون الأم على متن الطائرة المتجهة إلى نيويورك. ليست هذه هي المرة الأولى التي تسافر فيها الأم وتترك وحيدتها، لكنها المرة الأطول، قبل ذلك كانت سفرات عملها لا تتجاوز يومين أو ثلاثة، لكن هذه القاعدة وجب كسرها طالما كانت الوجهة هي الولايات المتحدة. هذا أمر صحيح في المطلق لكنه ليس كذلك بالنسبة للطفلة ذات الأربعة أعوام، فهي ككل التوائم السيامية يكون فصلها عن توأمها صعب وفراقها له أصعب. تنطبق عليهما تماما القصيدة الرائعة لبشارة الخوري التي تقول: لو مر سيف بيننا لم نكن نعلم هل أجرى دمي أم دمك، لكن هل كان الخوري يتصور أن يأتي اليوم الذي يُوَظَف فيه بيته في سياق غير السياق الذي عناه .. سياق العلاقة بين مُحِبّين؟ الواقع أن الشعراء يكتبون ما تمليه عليهم شياطين إبداعهم ويتركون لنا نحن المدلهين في حروفهم أن نوظفها على هوانا، هذا ليس شأنهم ولا هم يلقون إليه بالا.
***
كان قد طال انتظار الأم لكائن من لحمها ودمها تبثه مشاعر الأمومة المصطخبة بين جوانحها، وكانت هناك روح هائمة تنتظر أن يؤذن لها بالمرور من عالم الغيب إلى الحياة الدنيا، وحين التقت الرغبتان معا ورأت النور هذه المفعوصة الصغيرة نشأت علاقة بين الاثنتين ليست كمثلها علاقة. ملهوفة هي الأم على ابنتها أكثر من اللازم ولم لا؟ إنها وحيدتها التي رُزِقَت بها بعد سنين القلق والترجي والدعاء، كامنة هي داخل مسامها ومضفورة مع خصلات شعرها ومضبوطة على نبض قلبها، مربوطة هي معها بمكالمات يومية بلا عدد تسأل عن مزاجها وطعامها ولعبها وحرارتها.. حرارتها؟ بلى كانت صاحبتنا تنبه على الجدة أن تقيس درجة حرارة الطفلة صباحا وعند الظهر، وكأنها تود أن تباغت المرض.. الشر بره وبعيد.. قبل أن يباغت ابنتها. وحين تعود من عملها يبدأ فصل جديد من حياتهما معا بل قل تبدأ لهما حياة جديدة. كانت الأم تعرف أن علاقتها بابنتها غير صحية، وكان من حولها يتطوعون بلفت انتباهها ظنا منهم أنها لا تعرف، لكنها كانت تعرف. نحن في العادة نعرف أخطاءنا لكنها تمنحنا راحة زائفة.
***
انتزعت الأم نفسها انتزاعا من أحضان ابنتها فالطائرة لا تنتظر ركابها، أمسكت ورقة بيضاء ورسمت عليها تسع نجوم بعدد أيام سفرها. أعطت ابنتها قلماً وقالت لها: "كل يوم اشطبي نجمة، ومع آخر نجمة حارجع لك، وكده الوقت يعدّي قوام". شدّت هذه اللعبة اللطيفة انتباه الصغيرة فنظرت من خلف نظارتها وقالت: "لأ كل يوم حارسم circle حوالين نجمة لحد ما ترجعي"، أحست الأم ببعض الحرج فهي تتحدث عن طمس النجوم بينما تتحدث ابنتها عن احتضانها، من قال إننا أذكى من أولادنا؟. انفصل التوأم السيامي إذن، ومرت الأيام بطيئة بطيئة على الطفلة الصغيرة، افتقدت حكايات ما قبل النوم وحقيبة أمها تعبث بها بحثا عن الموبايل أو عن باكو لبان، حنّت إلى ذوق أمها في اختيار الألوان المبهجة فصارت ترسم وحدها بألوان باهتة، ملّت من طول الفرجة على أفلام ديزني وقد كان هذا في السابق أقصى أمانيها، وساعد اختلاف التوقيت على تباعد الاتصال فارتفع منسوب الشوق في داخلها وتحول إلى فيضان أو كاد. وأخيرا أخيرا جدا جاء اليوم التاسع، صحت الطفلة وهي في كامل نشاطها، سحبت الورقة البيضاء المُرَصَعة بالنجوم وأحاطت النجمة الأخيرة بدائرة كبيرة، اليوم تجئ ماما بحضنها وحكيها ونصائحها وضحكها وهداياها. لم تعاند كعادتها في ارتداء سويت شيرت بأكمام طويلة، وغسلت وجهها بذمة لا كما كانت تفعل في الأيام السابقة، وحاولت.. حاولت أن تسّوي غرفتها وتهذب فوضاها، وجلست تنتظر.
***
في غمرة ارتباك الأم نهار سفرها لم تنتبه إلى فارق التوقيت بين نيويورك والقاهرة، رسمت نجوما تسعة لوحيدتها على أساس أنها ستستقل الطائرة بالفعل في اليوم التاسع ونست أنها لن تصل القاهرة إلا ظهر اليوم التالي.. اليوم العاشر، وهكذا انتهت النجوم لكن الأم لم تعد. شيء ما لم يكن قادرًا على التهدئة من روع الصغيرة أو إقناعها بأن الأمر كله لا يعدو بضع ساعات لا أكثر ثم ترى أمها، مزيج من الإحساس بالخوف والخديعة انتابها وجعلها تتصرف بعصبية زائدة مع الجميع، تمردت على كل شيء بالمعنى الحرفي للكلمة: اللبس والطعام والنظام والنوم، ترى ماذا يخفون عنها؟ هل تبقى وحيدة؟ بدت الدوائر المحيطة بالنجوم التسع وقد راحت تضيق وتضيق حتى أوشكت أن تخنقها نجمة نجمة فخطفت الصغيرة الورقة البيضاء وراحت تباعد بين دوائرها ونجوم أمها حتي تنير وتسطع من جديد. لكن إن كانت أمها ستعود فعلا فلماذا لا تكلمها ولماذا لم ترسم لها نجمة عاشرة؟ احتارت الجدة في أمر الطفلة الصغيرة، والعجيب أنها التقطت عدوى الخوف من حفيدتها فانقبض قلبها، يا رب سلّم.
***
قلبت رنة ٣ دقات على تليفون الجدة حال البيت رأسا على عقب، تلك هي رنة الأم المميزة والمخصصة لها حصرا، إذن هي تتصل، إذن هي موجودة، إذن هي تجيئ. رفعت الجدة حفيدتها الصغيرة وراحت تلف بها كما يلف الدرويش بتنورته الواسعة وهو في حالة من التجلي فيما التليفون المحمول يرن ويرن دون توقف! لم تكن عَشَرَة أيام هذه التي تصنع كل هذا الفرق وكل هذه الوحشة وكل هذا الفراغ، لكن هذا هو الذي حدث على أي حال. وعندما جاء أوان الرد، كان أول ما قالته الجدة بعد جملة حمد الله على السلامة هو التالي "المرة الجاية عدّي النجوم كويس قبل ما تسافري ..أعصابنا ماعادتش تستحمل" المرة الجاية؟ يوجد شك كبير في أن تكون هناك مرة جاية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved