الانفصام فى الحياة السياسية العربية

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 28 مارس 2019 - 1:50 ص بتوقيت القاهرة

كنا، منذ فترة، نصف المشهد السياسى العربى، خصوصا بعد حراكات وثورات الربيع العربى المغدور، بأنه مشهد سريالى. فى ذلك المشهد تختلط الصور وتمتزج الظلال لتكون لوحات سياسية غير واضحة أو مرتبة، وبالتالى غير مفهومة.

وكما تدل الحياة السريالية التى يعيشها بعض الأفراد على تشوش فى الفكر واهتزاز فى توازن الشخصية، فإن الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات والدول التى تسمح الظروف بأن تقلب الأحداث حياتها إلى صور سريالية متنافرة.

لكن يظهر أن ذلك المرض السلوكى والفكرى قد تحول تدريجيا، لدى بعض أنظمة الحكم العربية، إلى مرض نفسى وعقلى خطير مدمر للذات، يتمثل فى انفصام شخصية تلك الأنظمة وتحويلها إلى شخصيتين متناقضتين قادرتين، بتبريرات نفعية، على التعايش بانسجام وتعاضد.

فلقد كانت شخصية الغالبية من أنظمة الحكم العربية، منذ بضعة عقود، تتعايش فيها المشاعر والالتزامات والمصالح الوطنية المحلية مع المشاعر والالتزامات والمصالح القومية المشتركة الكبرى.

وحتى الأقلية الصغيرة من أنظمة الحكم العربية، التى لم يتوافر فى شخصيتها ومسلكيتها ذلك التوازن، منعها الخوف أحيانا أو الحد الأدنى من الخجل أحيانا آخر، من مضاددة مشاعر شعوبها الوطنية والقومية العفوية المتلازمة بصورة طبيعية أخوية، كما منعها من الشطط فى حماقاتها الأنانية أو ممارسة الدونية المذلة أمام قوى الخارج الاستعمارية المعادية لهذا الجزء من الأمة العربية أو ذاك.

مناسبة الدخول فى تلك الملاحظات الموجعة للقلب، ردود الأفعال العربية تجاه القرارات النرجسية العدائية الفضائحية، المغموسة فى هوس دينى مفتعل صهيونى، للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بتحريض من صهره الصهيونى كوشنر، تجاه القدس العربية منذ بضعة شهور، وتجاه الجولان العربى منذ بضعة أيام.

كان المنتظر، كحد أدنى، أن يصدر قرار عربى موحد، باسم الجامعة العربية من جهة، ومن خلال كل وزارة خارجية عربية من جهة أخرى، يعتبر القرارات الرئاسية الأمريكية الأخيرة قرارات حرب عدوانية على كل الأمة (وليس فقط خاطئة أو مخالفة للشرعية الدولية كما تلاعب بكلماتها البعض)، وأنه ستكون لها انعكاسات على كل المصالح والعلاقات الأمريكية فى كل الأرض العربية.

لنذكر هنا بأن عرابى المافيا من السراق الذين يوزعون ما لا يملكون لا يخافون إلا من المواقف الرّجولية الندّية الشجاعة لمن يواجهونهم بشرف.
كان المنتظر، كأول رد فعل، دعوة سوريا للعودة إلى الجامعة العربية كتأكيد قومى بأن سوريا هى جزء من وطن عربى واحد، وأنها لن تترك لوحدها لتجابه صلف نظام الحكم الأمريكى.

كان التعلل بضرورة الإجماع لإرسال الدعوة تعللا غير مقبول، وغير منطقى تحت ظروف هذه الهجمة العدوانية الجديدة على الوطن العربى.

دعنا نذكر هنا بأن سوريا لا تتمثل فقط فى نظام حكم، لدى بعض أنظمة الحكم العربية مشاكل معه مثلما لديه هو الآخر مشاكل معها. سوريا هى قطعة وجودية من الوطن العربى، فهى شعب عربى أثبت عبر التاريخ، وفى العصر الحديث على الأخص، أنه من أكثر شعوب الأمة العربية وفاء لالتزاماته القومية ومن أكثر شعوبها كرما واحتضانا وتضحية من أجل أى من المنكوبين والمشردين واللاجئين والمضطهدين العرب.

لقد وقفت سوريا، شعبًا وحكومة، فى كل حرب ومعركة خاضتها أقطار من الأمة العربية ضد أعداء العرب الكثيرين. لقد خسرت الجولان، كأرض محتلة من قبل العدو الصهيونى، من جراء وقوفها المشرف مع شقيقتها مصر إبان معركتها العادلة ضد الكيان الصهيونى، عندما وقف الكثيرون يتفرجون.

فهل هكذا يجازى الشعب العربى السورى الشقيق، المبهر فى عطائه وتاريخه وتضحياته الهائلة، وهو يخوض حربه الوجودية مع عتاة الإجرام الجهادى الإسلامى المزعوم فى الداخل وضد التكالب الخارجى، الذى تقوده أمريكا والصهيونية، من أجل تفتيت أرضه وتدمير كل مكوناته الحضارية والمعيشية؟

من الواضح جدا أن قوى الشر الداخلية والخارجية ترمى لجعل الشعب العربى فى سوريا يكفر بالعروبة وبارتباطاته القومية وبأخوة الإسلام، تماما كما حاولت وتحاول تلك القوى فعل الأمر نفسه حاليا بالنسبة للشعوب العربية فى فلسطين والعراق وليبيا واليمن ومصر، وسيأتى الدور على الآخرين الحالمين المعتقدين ببلادة متناهية بأنهم سيكونون فى مأمن من مؤامرات الداخل والخارج المماثلة.

ويظهر أن قبول فقدان الجزء تلو الآخر من الوطن العربى للغير أصبح سلوكا ملازما للشخصية السياسية الحاكمة فى بعض أرض العرب.

أما بالنسبة لأمريكا فقد كنا نأمل إجراء مراجعة شاملة جادة لكل علاقات العرب السياسية والاقتصادية والأمنية والشخصية مع نظام حكم حالى لم يبقِ ابتزازا إلا ومارسه، ولم يبقِ احتقارا للعرب إلا وأعلنه، ولم يبقِ شرعية دولية إلا وداس عليها، ولم يبقِ اتفاقات ومعاهدات عربية معه إلا وألقى بها فى سلة المهملات.

ومع ذلك فلا يزال مندوبوه وما زالت وفوده محل ترحيب من قبل الكثير من قادة العرب وأنظمة حكمهم.

نعم هناك انفصام فى الشخصية يتعايش فيها جبروت وتسلط وتهديدات وعنتريات فى الداخل مع سلوك ضعيف ذليل مستسلم فى الخارج.

لك الله يا شعب سوريا الرائع المبهر.. إلى أن تتعافى تلك الشخصية العربية من انفصامها المأساوى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved