شكل الزمن فى حالة التحول إلى التقدم

محمد رءوف حامد
محمد رءوف حامد

آخر تحديث: السبت 28 مارس 2020 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

بعد أن صرنا ــ كعرب ــ «فى هوا الرجعية سوا»، مما نعانيه من متضادات وتناقضات مزمنة قاسية ترجع بنا إلى الوراء، كما ورد فى تناول سابق، فإن التنقيب عما يمكن أن يساهم فى تصحيح أوضاعنا ومستقبلياتنا، بحيث نتحول إلى التقدم، يصبح حاجة عظمى، ومُلحة.
وعليه، فهذا التنقيب يختلف جذريا عن مجرد التوقف عن الممارسات المسببة للتخلف، والمؤدية للرجوع إلى الوراء، حيث من المفترض أن يصل بنا إلى استخراج وبلورة حزمة من الأساسيات والمتطلبات التى تكفل الإبحار إلى زمن التقدم.

ركائز التحول إلى التقدم
فى هذه الركائز تكمن الأهداف والسياقات التى تتولد منها بقية العناصر والأدوات المؤدية إلى التحول.
الركيزة الأم تتمثل فى إعلاء شأن «قوة الفكر» فى مواجهة «فكر القوة». فبينما من الممكن أن يكون لفكر القوة (أو فكر الأوامر) قدرة تحقيق إنجاز سريع، إلا أنه لا يضمن جودة الإنجاز، ولا استمراريته، ولا أن يكون هو أحسن ما يمكن التوصل إليه بالإمكانات القائمة.
وفى المقابل، فإن إعمال قوة الفكر يتيح التوصل إلى التصور الأمثل لما ينبغى أن يكون عليه التحول، سواء فى التعامل مع مشكلة أو أزمة، أو فى الإجابة عن سؤال، أو فى مجابهة الإشكاليات مهما بلغت تعقيداتها، وأيا كان مصدرها، محليا أو أجنبيا.
غير أن «قوة الفكر» لا تتحقق إلا فى ظل الوجود الفاعل والمتكامل لركيزتين أخريين، وهما «درجة الحرية المناسبة» و«المنظومية».
بدون درجة الحرية المناسبة لا تطور، ولا حياة.. وفى مصاحبة ركيزتى الحرية والمنظومية لبعضهما تكمن الحماية المتبادلة بينهما، حيث فى وجود درجة الحرية المناسبة لا يمكن للمنظومية أن تقود إلى الانغلاق، أو إلى ممارسات تحجيمية أو دكتاتورية. وبالتوازى، تُوفر المنظومية الحماية مما يمكن أن تؤدى إليه الحرية من عشوائية، أو من عشوءة، والتى فى ظلها يترعرع الفساد وتتعملق المصالح الخاصة.
فى ظل هذه الركائز الثلاث (قوة الفكر والحرية والمنظومية) تتاح أحسن ما يمكن من مسارات وفرص لخلق واستيعاب القدرات الإبداعية وتنميتها، مما يُولّد الركيزة الرابعة للتحول إلى التقدم، والتى هى «صناعة الإبداع المجتمعى».
وهكذا، بدون الركائز الأربع مجتمعة تنعدم (أو تتعثر) إمكانات «التحول» إلى التقدم.

منهجيات التحول إلى التقدم
باعتبار التفكير العلمى هو النسيج الأساسى لبناء التوجهات وحل المعضلات فإن استخدامه لحل معضلة الواقع الرجعى فى الأوضاع العربية الراهنة يقود إلى منهجيات تشكل مع بعضها عنق الزجاجة بخصوص الانتقال إلى حالة مستقبلية أحسن (حالة التقدم).
من المنهجيات الأساسية فى هذا الصدد يأتى «الفهم الأحسن للمسارات (أو السيناريوهات) على المدى الطويل»، أى الفهم الأكثر جدا من مجرد خطوة واحدة تالية. يتحقق ذلك بالتقصى والقياس للسياقات والظروف المُشَكِلة للحاضر (ولخلفياتها)، جنبا إلى جنب مع الاستشراف للتحديات والمتغيرات المحتملة.
الفهم الأحسن للمسارات على المدى الطويل يحتاج «تجنب غلق المستقبل» مع العمل على جعله (أى المستقبل) مفتوحا باستمرار.

***
منهجية «تجنب غلق المستقبل» تعنى الاحتراس تجاه الآليات التى يمكن أن تكون ضارة بأية احتياجات أو اجتهادات مستقبلية. ذلك مثل الاستعانة بالأجنبى على حساب (وبالرغم من) الإمكانات الوطنية، والغرق فى الديون، وإغفال الرأى الآخر.
من ناحية أخرى، يتسارع غلق المستقبل بفعل آليات سلبية على غرار حجب المعلومات، واللجوء إلى المعرفة الزائفة، مثلما حدث فى مصر السبعينيات من توجهات أدت إلى اعتلاء الأفكار والجماعات ذات الصبغة الدينية للشارع السياسى.
أيضا، على رأس منهجية «تجنب غلق المستقبل»، تأتى الحاجة للتنبه إلى سر العداء التقليدى من جانب «الغرب الاستعمارى» للمنطقة العربية. ذلك أن السبب الرئيسى لهذا العداء المتواصل (والذى استهدف ويستهدف غلق مستقبلياتنا)، لم يكن فى الأساس طمعا فى النفط (أو فى منافع أخرى)، وإنما هو توجه ناجم عن معرفة أصيلة بمميزات كونية خاصة بهذه المنطقة.
هنا، من المهم إدراك أن الغرب الاستعمارى يعى بامتياز خصوصية المنطقة العربية كأكثر مناطق العالم تميزا فى خلفيات تاريخية إنسانية استنهاضية أصيلة، تكمن فى تفردها بالجمع بين أمرين، وهما أنها مهد الحضارات ومهبط الديانات.
هذه الخصوصية تجعل شعوب المنطقة العربية على تأهل عال للتحول إلى مارد إنسانى استنهاضى كبير (متى تهيأت لها الظروف)، الأمر الذى يخشاه الغرب الاستعمارى، ويعاديه بشكل مطلق. فى هذا الشأن يمكن متابعة مزيد من التفاصيل فى مقال لنا فى بعض المواقع الإلكترونية بعنوان «نحو فهم أعمق لخلفيات العداء الأجنبى للمنطقة العربية».

***
بالتوازى مع منهجية «تجنب غلق المستقبل» تأتى الحاجة إلى منهجية «فتح المستقبل».
وإذا كانت منهجية «فتح المستقبل» تتضمن آليات وأدوات مثل «الجماعية» فى العمل وفى الفكر، والاحترام الكامل للآخر ولرأيه، مع التفاعل معه بأعلى إيجابية ممكنة، إضافة إلى الاستناد فى الممارسات الحياتية اليومية إلى المنهج العلمى فى التفكير، فإن المدخل الرئيسى والدائم لفتح المستقبل يكمن فى استخدام المعرفة العلمية كجسر حيوى فى التعامل مع أية إشكاليات أو تحديات. ومن الطبيعى أن يتكون هذا الجسر من فاعليات وأنشطة البحوث والدراسات.

***

المنهجيات «التحوُّلية» الثلاثة السابق الإشارة إليها («الفهم الأحسن للمسارات على المدى الطويل» و«تجنب غلق المستقبل» و«فتح المستقبل«) تزدهر وتؤدى إلى مبتغاها، أى التحول إلى حالة التقدم، من خلال منهجيتين مكملتين، وهما «البحث فى الذات» و«الحوكمة التنموية».

***

المقصود بمنهجية «البحث فى الذات» الغوص فى المجتمع المحلى بحثا عن المشكلات والإشكاليات والأسئلة التى تحتاج إلى استيعاب وفهم وحلول. إنها المنهجية المدخل لبناء تنمية أصيلة.
هذا، ولا يكون «البحث فى الذات» ناضجا بغير استيعاب ما يمكن استيعابه من جميع الخبرات ذات الصلة فى أى مكان فى العالم.
وفى المقابل، يمكن للاجتهاد الخاص بالبحث عن الذات أن يقود ليس فقط إلى معارف وحلول وتطويرات محلية، وإنما أيضا للتوصل إلى ما هو جديد تماما وأصيل، أى على مستوى عالمى، الأمر الذى توجد له أمثلة تستحق الإشارة فى مقام منفرد.
***
أما عن «الحوكمة التنموية» فيُقصد بها الحوكمة متعددة الاتجاهات. إنها حوكمة تشاركية تقوم على تكاملية التقييمات والرؤى بين جميع الأطراف المشاركة فى المهام التى يجرى حوكمتها (والمستفيدة منها).
فى هذه الحوكمة تتقارب فى الوزن أدوار وتوجهات المديرين والمُدارين (والمستفيدين).
ومهما بدا من صعوبة فى الحوكمة التنموية فإن تطبيقها يكون ممكنا بقدر صدقية المديرين ووضوح الآليات، مما يساعد فى توليد انعكاسات تمكينية إيجابية (مثل تعميق الانتماء ورفع مستويات الإتقان) عند عموم الناس.
وهكذا، مع التمكين الإيجابى، تكون الحوكمة مدخلا شفافا (وصادقا) لتحسين الأداء وتعظيم المخرجات. عندها تصبح التنمية ممكنة (وممتعة).

***

وبعد.. الاجتهاد فى المضى إلى ما جرت الإشارة إليه أعلاه من «ركائز» و«منهجيات» يجعل للزمن ملامح وإيقاعات وتضاريس جديدة. قد يتجسد ذلك فى وضوح وشفافية العلاقات (إنسانيا ومؤسسيا)، وفى تضافرية السياسات والخطط، وفى ازدهار الرعاية لعموم المواطنين، وفى زيادة الاطمئنان (واليقينية) عند المواطن العادى بشأن مستقبله ومستقبل أولاده، وفى شيوع العائدات المجتمعية من جميع الأنشطة والمجالات على بعضها بعضا (فى شكل التشابك فى الخبرات، والثقة، وتقليل الفاقد وتطوير المخرجات... إلخ).
عندها يحدث التحول من معاناة قسوة المصير «الرجعى» إلى حمية التشارك فى قوة الدفع لإحداث التقدم.
عندما يبدأ هذا التحول فى الحدوث ستتصاعد التحسينات فى عموم المنتجات والخدمات، وستسود عمليات الاستكمال والتطوير والتمكين للكيانات وللخبرات، وستختفى مساخر البدء دائما من الصفر.
هنا يبزغ تساؤل عملى كبير عن العوامل المساعدة Catalysts التى يحتاجها هذا التحول.. الأمر الذى يحتاج إلى معالجة منفصلة.

أستاذ جامعى

الاقتباس
من المهم إدراك أن الغرب الاستعمارى يعى بامتياز خصوصية المنطقة العربية كأكثر مناطق العالم تميزا فى خلفيات تاريخية إنسانية استنهاضية أصيلة، تكمن فى تفردها بالجمع بين أمرين، وهما أنها مهد الحضارات ومهبط الديانات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved