مداولات فى بيروت حول مستقبل السودان والعراق والديمقراطية والاحتلال!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 28 أبريل 2010 - 9:45 ص بتوقيت القاهرة

 احتفلت إسرائيل، خلال الأيام القليلة الماضية، بالذكرى الثانية والستين (بحسب تقويمها الخاص) لإقامة دولتها، بالحرب، على أرض الشعب العربى فى فلسطين.

وتباهى الإسرائيليون عبر احتفالاتهم بأنهم قد بنوا أقوى دولة فى هذه المنطقة التى كانت «عربية»، والتى يعطيها العالم، الآن ونتيجة ثبات الكيان الإسرائيلى فيها وتفوقه على مجموع دولها، اسما جغرافيا من خارج هويتها العربية فيسميها «منطقة الشرق الأوسط».

فإسرائيل، وباعتراف أهل النظام العربى فضلا عن إنجازاتهم فى الدول التى يحكمونها أو يتحكمون فى مصير شعوبها، هى الأقوى بالمطلق من مجموع الدول العربية، سواء فى قدراتها العسكرية الهائلة، تقليدية ومطورة ونووية..

وهى تتمتع بازدهار اقتصادى ملحوظ، وصادراتها تسجل عاما بعد عام أرقاما فلكية، لا سيما قد سجلت تقدما قياسيا ليس فى الصناعات العسكرية بل كذلك فى الحواسيب والشطائر الإلكترونية كما فى الأساليب الأكثر تقدما فى الرى بالتنقيط، ما جعلها تحتل مكانة مميزة فى مجال تطوير الزراعة وزيادة الإنتاج.

بالمقابل، كان يرى المواطن العربى نفسه غارقا فى مقارنة محزنة بين أوضاع دوله العديدة، التى تقف على حافة الانهيار، فى ظل هيمنة أهل النظام العربى.. فهذه الدول، لا سيما الأكبر والأغنى فيها، تبدو متهالكة، تفتقر إلى «الدور» والقدرة على التأثير فى محيطها، وغالبا ما تسلم مقاديرها «للصديق الأمريكى الكبير»، بما فى ذلك مهمة حماية حدودها، وإن كانت أنظمتها قوية جدا على شعوبها وشرسة جدا فى مواجهة مطالبتهم بحقوقهم الطبيعية فى أوطانهم.

فأما أكبر الدول العربية وأعرقها وأسبقها إلى التمدن والثقافة وبناء المؤسسات، مصر، فإن بؤس الأوضاع فيها كدولة وحتى كمجتمع، ملأ صفحات هذه الصحيفة والصحف العديدة الأخرى، حكومية ومعارضة وبين بين، بوقائع محزنة ومخجلة فى آن، تذكر بأحوالها فى النصف الأول من القرن الماضى، مع مزيد من التردى فى مجالات التعليم والصحة والسكن وأسباب التقدم الاجتماعى فضلا عن ضمور الدور السياسى، لا سيما إذا ما قيس بالدور الإسرائيلى، عالميا، بل وحتى فى آسيا وأفريقيا، ناهيك بالمستوى العربى.

بعد مصر ومعها نتوقف أمام السودان الذى خاض شعبه فى بحور الانتخابات الرئاسية والتشريعية والجهوية، فى ظل نظام عسكرى لم يشتهر عنه إيمانه بالديمقراطية.. وهى انتخابات فاز فيها النظام، عبر رجاله، بما يشبه الإجماع، وإن هى فتحت الباب على مخاطر جدية على وحدة السودان جميعا.

ولقد التقينا فى بيروت، السيد الصادق المهدى، رئيس الحكومة الأسبق وزعيم حزب الأمة الذى كان له دور مشهود فى التاريخ المعاصر للسودان، وهو كان قدم للمشاركة فى مؤتمر حول «الوسطية»، انعقد الأسبوع الماضى فى العاصمة اللبنانية.

فى تقدير الصادق المهدى إن النظام سوف يفوز فى الانتخابات، لكن دولة السودان سوف تتفكك، وأن الجنوب سيذهب إلى مصيره فى الاستفتاء المقرر تنظيمه نهاية هذا العام، والذى تدل المؤشرات جميعا على أن انفصاله واقع حتما، لا سميا أن أرضه تختزن النفط، والنفط جلاب الدول.. والولايات المتحدة الأمريكية تراهن على هذا النفط كمدخل «للاستيلاء» على الجنوب وربما لهذا «تساهلت» مع انتخابات البشير!

أما الانتخابات الأطول فى التاريخ فهى التى شهدها العراق تحت الاحتلال الأمريكى فى أوائل شهر مارس الماضى، والتى لما تعلن نتائجها النهائية، رسميا، لأن المطالبات متعددة الصوت فرضت إعادة الفرز، يدويا هذه المرة، بعد تقديم طعون حول سلامة الفرز الأول، أو دقته، لا سيما وأن الفارق بين اللائحتين «الفائزتين» الأولى والثانية كان ضئيلا، ويمكن أن يتبدل «الكيان» الفائز، وتتبدل بالتالى صورة الحكومة الائتلافية بالضرورة، برئيسها أساسا والوزراء، إذا ما «حذفت» بعض الأصوات المطعون بصحتها، مع كل ما يمكن أن يرافق ذلك من تطورات «على الأرض».

والأرض فى العراق تحت الاحتلال الأمريكى حبلى بالمفاجآت الدموية، وخلال الأسبوع الماضى سقط أكثر من ستين قتيلا ونحو المائتى جريح بين المصلين الذين كانوا يؤدون فروضهم الدينية فى المساجد والحسينيات فى بغداد، ومدينة الصدر فيها خاصة، كما فى ديالى وجهات أخرى، بما ينذر بعودة التفجيرات كتعبير ديمقراطى تمارسه «القاعدة» ضد المواطنين البؤساء، وبهدف تفجير الفتنة بين المسلمين، فى حين أنها لم تهاجم قوات الاحتلال إلا فى ما ندر.

ولقد تسنى لى أن ألتقى، خلال الفترة التى سبقت الانتخابات، كما بعد إعلان نتائجها، عددا من القيادات السياسية والدينية ــ السياسية التى جاءت إلى بيروت لأسباب شتى، وعقدت لقاءات مع مرجعيات وقوى وهيئات رسمية لبنانية بعضها طبيعى ومفهوم، وبعضها الآخر يستوقف المتابع، لأنه من خارج التوقع.

لأمر ما، تحولت بيروت على امتداد الشهور الثلاثة الماضية، إلى محطة لمختلف الأنشطة الترويجية والتسويقية، داخل السياسة وخارجها، فتوافد إليها العديد من «الأقطاب» الذين تزعموا «الكيانات» أى اللوائح الانتخابية، أو انضووا تحت لوائها فى مظهر ديمقراطى للمنافسة فى ظلال الاحتلال..

مع أن بيروت، بل ولبنان جميعا، ليس بين المراكز الكبرى لتجمعات الذين ألجأهم الرعب والخوف على أبنائهم من المجازر ذات الطابع الطائفى والمذهبى، ليمكن الافتراض أن هؤلاء «الأقطاب» جاءوا بهدف التواصل مع الناخبين المفترضين أو الترويج لكيانات سياسية معينة تخوض المعركة لنصرة الديمقراطية.

كانت بيروت، والحال هذه، «المركز الدولى» للتواصل مع أشتات العراقيين الذين نشرهم الرعب على مساحة الكون، وكذلك مع قوى النفوذ العربى والدولى، مباشرة أو عبر الوسطاء والسماسرة الذين يتمتعون بحرية الحركة تواصلا وتخابرا.. ثم إنها عاصمة السرية المصرفية حيث لا قيود على تحويل الأموال من حساب إلى آخر.

وحرية التحويل، كما تعلمون، إحدى ركائز الحريات العامة والسياسية منها، خصوصا، فالديمقراطية فى ظل النظام العربى يحققها تحالف السيف والدينار الذى صار دولارا أو يورو بعد تراجع الاسترلينى.

كانت حركة الأقطاب علنية فى جوانب منها: زيارات لمواقع رسمية فى السلطة، ولمرجعيات دينية معروفة، ولقاءات سرية تغلفها الشائعات والتكهنات مع دبلوماسيين أو رجال مخابرات مقنعين بالحصانة الدبلوماسية، يفضل أطرافها أن تتم فى غفلة من عيون الفضوليين، عراقيين أو سوريين أو أردنيين أو لبنانيين، أو من جنسيات أخرى يمكن تمويهها أو يسهل عليها التحرك والتلاقى وتبادل المعلومات والخبرات بسهولة، وسبحان من سخر الذهب لتسهيل كل صعب.

جاء إلى بيروت، قبل الانتخابات ثم بعدها، كل من إياد علاوى، والسيد عمار الحكيم وأحمد الشلبى وإبراهيم الجعفرى وبعض مستشارى الرئيس جلال طالبانى، ثم الزعيم الكردى مسعود البرازانى وغيرهم كثير.. ولوحظ أن البعض من هؤلاء جاء مباشرة بعد زيارة إلى السعودية حيث استقبل الملك عبدالله بن عبدالعزيز العديد من رجال الصف الأول فى الكيانات السياسية، سنة وشيعة، عربا وأكرادا.

وفى لقاءات جمعت بين بعض أهل الرأى من اللبنانيين المكتوين بنيران الحروب الأهلية التى تمددت لدهور فى الوطن الصغير، وبين بعض هؤلاء الزوار كان الحوار «يتركز» على وجوه الشبه بين العراق ولبنان!

وكان ذلك المنطق غريبا: فالعراق بلد عربى كبير، ليس فيه مشكلة هوية، لأن أكثريته الساحقة «عربية»، فاختلاف الانتماء المذهبى لا يبدل الهوية الوطنية والقومية، ثم إن حقوق الأقليات، لا سميا الأكراد، مصانة بالتوافق على مبدأ «الحكم الذاتى» ضمن سيادة الدولة المركزية الواحدة فى العراق.. فى حين أن أصحاب الحل والربط متوافقون على توفير الحريات السياسية والدينية للأقليات محدودة الأعداد من غير العرب والمسلمين: تركمان آشوريين وكلدان وصابئة ويزيديين.

وحتى بعد إعلان النتائج غير النهائية للانتخابات فى العراق جاء إلى بيروت عدد من الأقطاب «للتشاور» مع «جهات لبنانية» لم تعرف عنها العبقرية السياسية أو الاهتمام بالعراق، ماضيا وحاضرا، والقدرة على التأثير، وإن كانت «مراكز اتصال» أو «صناديق بريد» لقوى مؤثرة فى الخارج، ارتؤى أن يتم التواصل معها خارج العراق لضمان السرية الضرورية لتأمين الصفقات السياسية حول المستقبل.

وبطبيعة الحال فلم يكن مستساغا التطرق إلى الاحتلال الأمريكى أو السؤال عن مدى تأثيره بالمائة والخمسين ألف جندى المنتشرين فى 400 قاعدة فى مختلف أنحاء البلاد، عدا مرتزقة «البلاك ووتر» فى ديمقراطية العملية الانتخابية، ولا عن الدور الإيرانى ونفوذه المعروف داخل الأوساط جميعا، عربية وكردية، شيعية وسنية.

كان الكل يفضل الجواب بتعابير لبنانية: تعرفون أن العراق متعدد القومية والعرق والمذاهب، مثلكم هنا، ولابد من مراعاة خصوصياته؟

ولم يكن أى منهم يبدى الرغبة فى أن يسمع، لاسيما حين يتم لفت انتباههم إلى أن الخصوصيات اللبنانية إنما هى استثمار مفتوح للأجنبى، بل لعل القصد من إنشاء هذا الكيان السياسى كمجمع للأقليات، طائفية ومذهبية، مع تعظيم الخلاف على الهوية انطلاقا من الدين وكأنه محدد للارتباط السياسى (مع الغرب، الفرنسى ــ البريطانى ثم الأمريكى، أو مع الشرق السورى، أساسا، والمصرى فى زمن مضى، ثم العراقى فى وقت لاحق، والسعودى دائما وأن بمستوى أضعف)..

وأن العراق وطن طبيعى لأهله، لا هو شهد حروبا طائفية أو مذهبية، أو حتى عرقية.. مع التنويه إلى أن قيادات العروبة، رسمية وسياسية، لم تتأخر يوما عن إعلان تأييدها لحصول أكراد العراق على حكم ذاتى داخل دولته الموحدة.

كان كل زوار بيروت يتحدثون بتفاؤل عن مستقبل العراق وكأن الانتخابات محطة فاصلة ــ بين عصرين: عصر الخلافات والصدامات والصراعات التى كثيرا ما تتخذ من الموضوع المذهبى وسيلة لتفجير القرى والبيوت بأهلها نساء وأطفالا ورجالا، وعصر الديمقراطية الآتى فجرا بعد ليل الطغيان الطويل.

لم يكن أحد منهم ليتوقف عند الاحتلال الأمريكى وتأثيراته غير المحدودة على سياق الأحداث، بل كانوا جميعا يقفزون من فوق هذا «التفصيل» المعكر لصفو أحاديثهم المتفائلة وثقتهم بالانتصار على «خصومهم» بالديمقراطية وليس إلا بها..

بل إن بعضهم لم يكن يتورع عن الادعاء بأن الاحتلال الأمريكى يتعجل الانسحاب، وأنه سيضمن الحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص والاقتراع بغير ضغوط أو تأثير وإعلان النتائج طاهرة منزهة عن أى غرض، ثم إنه سيضمن قيام حكم جديد مؤهل لتسلم عراق غير منتقص السيادة.

...ثم جاءت «البشرى» بتصفية بعض قيادات «القاعدة» فى العراق، لتليها بعد أيام قليلة أخبار التفجيرات (13) التى حصدت مئات القتلى والجرحى فى أحياء عدة من بغداد، أخطرها فى مدينة الصدر، وفى أنحاء أخرى من العراق مستهدفة الشيعة بقصد تحوير الصراع وإظهاره مذهبيا.

وعاد شبح الخوف على العراق يحوم فى الأجواء، وكأن الانتخابات لم تكن، لا سيما أن أطرافا عدة استرجعت تعابير عفى عليها الزمن فى توصيف المرحلة المقبلة.

وواضح أن إعلان ولادة جمهورية عراقية عربية الانتماء والدور متحررة من الاحتلال الأمريكى وبنظام ديمقراطى يحقق طموحات شعبها ستتأخر لبعض الوقت.
وأما اليمن وتونس والجزائر وغيرها فتستحق وقفة مطولة أمام علاقة أنظمتها بالديمقراطية وبالعروبة، ثم أمام مستقبلها كدول.




هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved