فى فقه المقاطعة

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الأربعاء 28 أبريل 2010 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

 حتى إذا كان قرار مقاطعة اللحوم فى مصر ليوم واحد، وحتى إذا لم تؤد المقاطعة إلى إحداث تغيير جوهرى فى الأسعار، فإن الخطوة تستحق الحفاوة والتشجيع من أكثر من وجه.. صحيح أن الموقف الرسمى من المقاطعة بدا مترددا وخجولا.

وأن الصحف القومية تجاهلتها تقريبا (الأهرام لم يشر إليها بكلمة)، صحيح أيضا أن كثيرين فى مصر قطعوا علاقاتهم باللحوم منذ مدة عندما ارتفعت أسعارها، وبدا كأنها هى التى قاطعتهم وتأَّبت عليهم ولم يبادروها هم بالمقاطعة.

إلا أن إطلاق المبدأ أهم من كل ذلك. فنحن فى شوق إلى أى نداء يستنهض الناس ويدعوهم إلى المشاركة فى أى عمل عام، سواء تعلق بمصالحهم الفئوية المباشرة أو بمصالح البلد بشكل عام.

فى مصر تفاعلات اجتماعية وسياسية لا تنكر. إذ إلى جانب دعوات تغيير الأوضاع السياسية، فقد أصبحنا نشهد بين الحين والآخر تجمعات مدنية نشطة تدافع عن الحقوق وتسعى إلى تقويم العوج فى قطاعات مختلفة. فقد صار لدينا «مواطنون ضد الغلاء»، و«مواطنون ضد الفساد»، وضد بيع الغاز لإسرائيل وضد البطالة وضد التوريث..إلخ، وهى تجمعات نخبوية وقاهرية فى الأغلب.

لا يقل عن ذلك أهمية أن فكرة التظاهر السلمى أصبحت أكثر شيوعا وقبولا بصورة نسبية. حتى لم يعد يخلو رصيف مجلس الشعب من متظاهرين ومعتصمين على مدار الأسبوع. وفى الوقت الراهن فهناك معتصمون آخرون يطالبون بحقوقهم أمام مبنى وزارة الزراعة. وهى ممارسات تدل على أننا صرنا بإزاء وعى مختلف، كسرت فيه قطاعات عريضة حاجز الصمت والخوف بدرجة ملحوظة.

رغم تعدد مظاهر التعبير عن الاحتجاج والسخط، فإن فكرة المقاطعة لم يكن لها نصيب فى «أجندة» الرافضين الغاضبين، فى حين أنها تعد من أرقى الأساليب المتبعة فى هذا المجال. ذلك أنها لا تتطلب الإقدام على فعل ينسب إليه «تكدير الأمن العام» أو يقتضى الخروج إلى الشارع وربما التعرض للاشتباك مع الشرطة وما أدراك ما هو. وإنما غاية المطلوب هو مجرد الامتناع عن الفعل. وهو ما لا يعرض المرء لأى نوع من المخاطر.

صحيح أننا عرفنا مقاطعة إسرائىل رسميا وشعبيا فى أزمنة الكرامة، ولكن المقاطعة الرسمية تراجعت بعد معاهدة السلام المشئومة، حين غدت الكرامة وجهة نظر ولم تعد موقفا مبدئيا، وبقيت المقاطعة الشعبية والنقابية التى أصبحت محل أخذ ورد فى مصر وفى بعض الدول العربية الأخرى. ولأن المقاطعة كانت قرارا للجامعة العربية وموقفا رسميا، فإنها لم تتحول إلى جزء من ثقافة الاحتجاج الشعبية. وربما كانت حملة مقاطعة البضائع الدنماركية عقب نشر الرسوم المسيئة للنبى محمد عليه الصلاة والسلام أبرز صور الاحتجاج التى ظهرت فى العالم العربى والإسلامى خلال السنوات الأخيرة ــ وفى غير هذه الحالة لا يكاد المرء يذكر حضورا معتبرا لأسلوب المقاطعة، باستثناء المقاطعة الشعبية النسبية والعفوية للانتخابات فى مصر، احتجاجا على تزويرها.

حتى نكون منصفين ينبغى أن نقر بأن ثقافة المقاطعة وغيرها من أساليب الاحتجاج السلمى هى من إفرازات الممارسة الديمقراطية، باعتبارها الأصل الذى يستدعى المجتمع ويحوله إلى شريك فى القرار وفى المصير. ذلك أننا لا نستطيع أن نتوقع تعبيرا مطمئنا عن الاحتجاج فى ظل أوضاع ترفض المشاركة أو تتلاعب بها.

إن المقاطعة يمكن أن تكون سلاحا فعالا حقا فى محاربة الغلاء، وتلك مسئولية المجتمع. لكن السلطة فى مواجهة الغلاء لها دور آخر من شقين، أحدهما توفير البدائل للناس التى تمكنهم من الصمود فى المقاطعة، والثانى يتمثل فى بذل جهد لرفع مستوى الإنتاج لتخفيض الأسعار التى تلهب ظهور الناس. وفى موضوع اللحوم مثلا فإن أجهزة السلطة تحدثت عن الاستيراد لحل الإشكال، لكن أحدا لم يثر موضوع تنمية الثروة الحيوانية. كحل جذرى للمشكلة وكانت النتيجة أننا حددنا بصرنا إلى ما وراء حدودنا ولم نلق بالا إلى مواضع أقدامنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved