الموقف الأخلاقى

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الخميس 28 أبريل 2011 - 9:47 ص بتوقيت القاهرة

استمتعت بمقال الدكتور جلال أمين بجريدة «الشروق» الجمعة 15/4/2011 بعنوان أشكال وألوان من الجرائم والخطايا، وكعادة د.جلال دائما ما يشدنا إلى أعماق الفكر التحليلى وفى مقارنته بين الحكم القانونى والحكم الأخلاقى صال وجال فى الفارق بين الاثنين، وأنا هنا أؤيده فيما ذهب إليه بأن القانون لا يبرئ مرتكب الجريمة، إذا ثبت أنه ارتكبها، صحيح يمكن تخفيف العقوبة أو تشديدها أما علم الأخلاق فيقول إنه يمكن إبراء شخص ما ارتكب جريمة بسبب الظروف المحيطة به، والدوافع التى دفعته لمثل هذا العمل، لأنه ربما يكون فعل ذلك رغما عنه سواء بسبب التركيبة النفسية أو العضوية له أو لظروف ضاغطة محيطة، وهذه النوعية من التفكير تجد قبولا شعبيا ضخما، فنحن نستمتع بأفلام روبن هود ذلك البطل الذى يسرق من الأغنياء لكى يعطى الفقراء والناس تعتبر أن هذه السرقة بطولة حيث إنه لم يستخدمها بدافع أنانى، لكن لإحساسه بمعاناة، وفى التراث المصرى نجد ادهم الشرقاوى الذى كان يسرق الباشاوات ويعطى المسحوقين، ويقيم العدل بطريقته..
وهكذا.

ولقد حاول بعض المفكرين الأخلاقيين أن يوضحوا أننا لا يجب أن نحكم على شخص ما قبل أن نرصد الموقف الأخلاقى الذى وجد أو وضع نفسه فيه، ويتركوا لنا حرية التفكير لو كنا نحن مكان الشخص فى موقفه الأخلاقى، وسوف أذكر لك عزيزى القارئ بعض المواقف، مثلا فى احد معسكرات النازى كانت هناك أم يهودية ترعى ستة أطفال فى نفس الوقت الذى كان فيه راهب كاثوليكى، ومن المعروف أن النازيين كانوا يكرهون الكاثوليك واليهود، ولقد أمر الضابط الراهب أن يزنى مع المرأة أو البديل هو قتل المرأة وتشرد الأطفال، وهكذا كان على الرجل ان يختار بين خطأين وليس بين خطيئة وصلاح والاختيار هنا فى الحالتين خطأ ومسئولية شخصية.

ولعلنا نلاحظ أيضا ان البشر جميعا يتخذون قرارات يومية يكون عليهم فيها ان يشربوا كأسا من اثنين أحلاهما مر، مثلا عندما تستمع عزيزى القارئ إلى صديق يشكو من زوجته مر الشكوى ثم يحكى أنه يحب امرأة أخرى ويود الزواج منها، ثم تسألك زوجة الصديق ماذا قال؟، فان قلت لا شىء فأنت كاذب، وان قلت انه قال أشياء جميلة فأنت كذوب، وان قلت الحقيقة ستشارك فى طلاقهما أو قتل أحدهما للآخر وتشريد الأطفال.. إلخ، ففى صدقك وكذبك أنت ترتكب جريمة، بل إن الموقف الأخلاقى يختلف زمنيا ومكانيا، فمثلا عندما أتطلع لصور إخواتى على بلاج الإسكندرية فى الخمسينيات فى رحلة أو ما شابه، وأتطلع فى نفس الوقت إلى صور من هم فى سن بناتى اليوم على نفس البلاج أمتلئ عجبا، فالذى كان مقبولا أخلاقيا فى الخمسينيات من حيث ملابس النساء و انطلاقهن دون غطاء للشعر مسلمات ومسيحيات معا، ولعبهن على الشاطئ أولاد وبنات لم يعد اليوم مقبولا للمسلمات ولا للمسيحيات، لقد صاروا أكثر انغلاقا.

أما بالنسبة للمكان فعندما سافرت إلى أمريكا أول مرة للدراسة فى الثمانينيات من القرن الماضى فوجئت بأن الكثيرين من الدارسين يحيون معا حياة المتزوجين، ولا يشعرون بأن هناك مشكلة حيث إن كل اثنين يختاران بعضهما ويتعهدان أمام الله بأن يعيشا مخلصين لبعضهم البعض، ولا يلجآن للكنيسة أو العقود المكتوبة إلا عندما يقرران الإنجاب أو حتى عند إرسال أولادهما إلى المدرسة، ولقد كنت ناقما على مثل هذه التصرفات ثم التقيت رجل دين وعرّفنى على زوجته وعلى العشاء اكتشفت أنهما لم يعقدا زواجهما رسميا، وعندما بدا على وجهى الاستغراب، استشهد رجل الدين بأن الأوراق والعقود هى حديثة فى التاريخ الإنسانى وان أبانا إبراهيم لم يعقد على أمنا سارة ولا إسحق على رفقة.. إلخ، وأن الأوراق لا تلزم أحدا ولا تجلب، وأن أركان الزواج متوافرة فى علاقتهما حيث أنهما تعاهدا بالإخلاص والوفاء والحب أمام الله، ثم هناك العلانية، وعندما ظهر على وجهى أنى لا أفهم شيئا، قالت الفتاة إن زوجى يخرج فى الصباح إلى عمله وكذلك أنا، ولا يعود الواحد منا إلى الآخر فى نهاية اليوم إلا لسبب واحد هو الحب وليس لأن لديه عقدا مكتوبا يرغمه على العودة، وأردفت أليس هذا أفضل أخلاقيا من أن يحيا معى رغما عنه بسبب العقود والمجتمع.. إلخ، إن هذا الموقف المقبول فى الغرب والمرفوض لدينا يسمى فى الحالتين، بالموقف الأخلاقى فموقفنا الأخلاقى هو الالتزام بتعاليم الأديان كما نفهمها وموقفهم الأخلاقى الالتزام بحرية الإنسان، وهذا من مقاصد الدين كما يفهمونه.

ويقول علماء النفس إن المواقف الأخلاقية لدى البشر تتحدد من خلال التكوين الداخلى للإنسان، هذا التكوين عناصره هى نوعية التربية التى تلقاها الإنسان فى طفولته، وصراعه اليومى بين القيمة والاحتياج، فهناك كما ذكر د. جلال طفل ولد فى أسرة مدللا وكل طلباته مجابة، وهناك طفل آخر فى الشارع لأن والديه انفصلا، وهكذا يكون الموقف الأخلاقى للأول أنه يرى الآخرين خدما وعبيدا، بينما الآخر يراهم صيدا يجب أن يقتنصه انتقاما من والديه والاثنان يستخدمان عنفا شديدا فى تحقيق ما يريدانه، ولكل واحد مبرره الأخلاقى فى موقفه سواء أدرك ذلك أو لم يدركه والفارق بين الشخص والآخر فى اختيار موقفه الأخلاقى هو ان يكون لديه مساحة من الحرية فى عقله، وهذه المساحة عليه كلما استطاع ان يملأها بكل ما هو خير وحق وجمال وهكذا يكون أكثر إنسانية وارفع أخلاقا، فرغباتنا واحتياجاتنا تكمن فى تحطيم من حطمونا وان نشمت بقوة فى كل شخص غنى أو ناجح يسقط، أو رئيس عمل يصاب بمرض عضال.. إلخ.

من هنا أتساءل وأرجو أن تشاركنى ــ عزيزى القارئ ــ فى محاولة الإجابة، عن الموقف الأخلاقى الذى يدعو بشرا يبدون محترمين فى المجتمع يدفعون أموالا لبلطجية لفض تظاهرات بالقوة، وما هو الموقف الأخلاقى لهؤلاء البلطجية، وما هو الموقف الأخلاقى لرجل أمن محترف يقوم بإجراءات تنتج فوضى أمنية مثل فتح السجون وإحراق الأقسام.. إلخ ، وهو عكس ما عاش عليه وتعهد به أمام الله ورئيس الدولة، وما هو الموقف الأخلاقى لبشر يتركون أعمالهم فى يوم محاكمات بعض رموز النظام السابق ويذهبون أمام المحكمة ليهتفوا ضدهم قائلين: يا حرامى.. يا لص.. ثم يعودون إلى أعمالهم ثانية، وما هو الموقف الأخلاقى لهذه الشماتة المرضية للكثيرين فيما يكتبون أو يتحدثون فى برامج التليفزيون، وما هو الموقف الأخلاقى لمن يدافع عن هؤلاء اللصوص الذين قاموا بامتصاص دماء الشعب، أو لمن يفرض مواقف أخلاقية يختارها هو على غيره سواء عن طريق العنف اللفظى أو البدنى ويعتبر فى هذا رسالة كلفه بها الله؟، ترى ما الذى ضيق مساحة الحرية فى عقول هؤلاء حتى انعدمت فى بعض الحالات؟ هل هو التفسير الضيق للدين أم ثقافة القطيع أو التخلف أو القهر أم ماذا ؟ عزيزى القارئ هل تستطيع الثورة بمفكريها أن يضيفوا مساحة من الحرية لعقول مثل هؤلاء أم أن هؤلاء سوف يخنقون الثورة؟!

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved