العرب والعالم الحديث.. كيف يصنع الدين الفارق؟

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 28 أبريل 2018 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

تدخل المنطقة العربية كعادتها مرحلة أخرى فارقة من تاريخها، تتداخل العوامل السياسية مع الاقتصادية مع الثقافية والاجتماعية لتضع المنطقة العربية دائما فى المؤخرة، هى المنطقة الأكثر صراعا، ومن ضمن المناطق الأكثر معاناة من سوء توزيع واستغلال الموارد، كما أنها دائما فى مؤخرة مقاييس الحريات والشفافية والديموقراطية. النطاق المحيط بالمنطقة العربية ليس أفضل كثيرا، فإسرائيل ورغم ديموقراطيتها المؤسسية المعتمدة غربيا تظل دولة احتلال تمارس سياسات فصل عنصرية ضد المواطنين العرب، وتركيا ورغم إنجازاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المبهرة وخصوصا فى العقدين الأخيرين تنحدر وبشدة تحت حكم أردوغان السلطوى، أما إيران ورغم تحديثاتها السياسية مؤسسيا تظل دولة سلطوية قمعية ثيوقراطية (محكومة برجال الدين)، كما أن الوضع ليس أفضل حالا فى دول القارة السمراء رغم بعض التحديثات هنا وهناك.

الإطار العالمى أيضا يعانى كثيرا، فالسلطوية تزحف غربا وشرقا، العنصرية تجتاح الشمال، الفساد وسوء توزيع الموارد يجتاح الجنوب، لكن يظل الحديث عن المنطقة العربية وأزماتها مهما لسببين، الأول أنها تظل المنطقة الاستراتيجية الأهم بالنسبة للعالم المتقدم، سواء للموقع أو للتأثير الثقافى أو لمجاورة إسرائيل أو لعنصر البترول والطاقة، وثانيا أنها المنطقة الأقل تقدما والأكثر معاناة رغم ظروف التجاور واللغة والثقافة والموارد والتى ترشحها دائما لتكون فى مكانة أفضل من مكانتها الحالية.
***

هناك مساحات كبيرة مازالت تفصل بين المنطقة العربية وبين العالم الحديث، مساحات تكنولوجية وثقافية/حضارية واجتماعية واقتصادية وسياسية. الهوة كبيرة ولكن تقريب المساحات ممكن بشروط! فى مجموعة من المقالات المتصلة أو المنفصلة وبحسب ظروف النشر ومساحته أحاول تناول شروط اللحاق بهذا العالم الحديث بعيدا عن السجع والشعارات الكاذبة التى كانت ومازالت أحد أهم أسباب التخلف والتراجع المرير الذى نمر به.
فى هذه السلسلة لا أتعامل مع المنطقة العربية بمفهوم السلالة أو العرق أو اللغة، ولكن بمفهوم التاريخ والثقافة، بما يعنى أننى أتحدث عن كل من سكن المنطقة العربية سواء من العرب أو الأكراد أو البربر أو غيرهم ممن عاشوا متجاورين لمئات السنين تحت نفس الظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
***

أول شروط التقارب بين منطقتنا العربية وبين العالم الحديث هو الدين! لأنه وفى تقديرى مازال الدين هو المحرك الأكبر للجماهير العربية ومازال هو العامل الأهم فى تحديد سلوكها السياسى وتشكيل وعيها وطريقة تفاعلاتها مع نفسها ومع الآخر. هناك جدل مشهور بين المهتمين بدراسة التقاطعات بين العوامل الدينية والسياسية، هل العالم الحديث يتجه نحو المزيد من اللا دينية (ليس المقصود هنا الإلحاد فقط ولكن وبشكل عام تراجع دور الدين فى حياة البشر)، أم نحو المزيد من التدين (وكذلك ليس المقصود هنا فقط أداء الشعائر الدينية مثل زيارة المساجد والكنائس ولكن وبشكل أعم اعتبار الدين هو العامل الأهم فى تحديد التوجهات والسلوكيات)؟ ورغم أنه لا توجد إجابة سلسة على هذا السؤال، فإن الإجابة الأكثر إقناعا أن العالم الحديث الآن مقسم بين تيار يدفع نحو المزيد من التشدد الدينى وبين تيار آخر يدفع نحو المزيد من التطرف فى رفض الدين فى المساحتين العامة والخاصة.

فى تقديرى ومع اعترافى بتداخل وتفاوت المعانى فإن أحد أهم أسباب تقدم العالم الحديث ليس فى فصل الدولة عن الدين، لأنه وبعيدا عن أوهام البعض من المنتمين للتيار العلمانى العربى، فإنه وباستثناء بعض دول العالم الحديث (الصين وفرنسا وبدرجة أقل هولندا) فإن الغالبية العظمى من دول العالم الحديث على درجات متفاوتة من التماس مع الدين ومؤسساته ورجاله، ولكن سبب تقدم هذا العالم الحديث هو تأطير وتنظيم العلاقة بين مؤسسات الدولة وبين المؤسسات الدينية، هذا التأطير اتخذ العديد من الأشكال ولكن أهم أسسه هى:
الحياد: أى أن مؤسسات الدولة وترتيباتها الدستورية والقانونية تتعامل بحياد تجاه جميع مواطنيها بغض النظر عن أديانهم وعقائدهم.

الحرية: أى السماح لجميع المواطنين بممارسة شعائر دينهم بحرية تامة دون التفرقة أو التمييز بين أتباع دين ودين آخر مع إعطاء المواطنين حق اللجوء للترتيبات القانونية العلمانية/المدنية فى أمورهم الشخصية.
التعددية: أى الاعتراف بحق المواطنين فى التنوع الدينى وعدم التقيد بدين معين واعتباره دين الدولة وما قد يشمله ذلك من تعيين الدولة لأديان رسمية بعينها بشكل حصرى لمواطنيها.

بالإضافة لهذه الأسس التى تم رسمها بعناية بين الدولة والدين، فإن سمة تطور آخر حدث فى المجتمعات الحديثة أعاد فهم الدين ومساحته فى المجتمع على أسس جديدة أهمها:

(١) التفرقة بين البشرى والإلهى: أى القدرة على التمييز بين كلام الله المقدس وبين إضافات البشر نتيجة لتأويل كلام الله أو للقصور فى فهم هذا الكلام سواء كان قصورا فى فهم السياق التاريخى لكمات الله أو القصور فى فهم التركيبات والمعانى اللغوية التى نزلت بها الكتب المقدسة فى لغتها الأصلية.

(٢) التفرقة بين الدين كمجموعة من الشعائر والتباشير وبين الدين ككائن اجتماعى كلما بعد عن مصدر نزوله والفترة التاريخية لهذا النزول كلما تأثر بقيم وعادات وتقاليد وثقافات الشعوب التى انتشر فيها وأثر وتأثر بها.

(٣) التفرقة بين الدين كمصدر للقيم والرسائل الروحية للسمو بالنفس وبين الدين كأداة لعلاقات القوة من أجل إخضاع البشر لتراتبيات كهنوتية يتم استغلالها لإعادة توزيع القيم والموارد فى المجتمع.
***

قطعا هذه التطورات لم تكن سهلة وقد أخذت المجتمعات الحديثة عشرات القرون لإدراك هذه الأسس البسيطة للعلاقة بين المجتمعات والدين. ولكن وفى رأيى، فإن التطور الأهم كان التطور الحادث بين رجال الدين والمؤسسات المتحدثة باسمه، وكانت أهم هذه التطورات هى:

(١) الإقرار بالطبيعة البشرية لرجال الدين، وهو ما يعنى ذلك التغير الهام فى الإدراك لرجال الدين والذى جعلهم يقبلون بحقيقة أنهم بشر وبأن أى مسحة مقدسة لهذه الطبيعة البشرية لا يجب أن تخرج عن نطاق ممارسة الدين داخل أماكن العبادة، فمتى خرج رجل الدين من معبده فقدَ مسحته المقدسة وأصبح مواطنا عاديا يخضع لنفس القوانين، عليه نفس الواجبات، ويتمتع بنفس الحقوق.

(٢) الإقرار بمبدأ السيادة للشعب، وهو ما يعنى ببساطة أن الشعب وحده هو المصدر الرئيسى لتشريع قوانين حكمه الحياتية لأنه الأكثر دراية بتطورات وظروف عصره وما يستلزمه ذلك من تشريعات بشرية تخضع لظروف البيئة ومعاييرها.

(٣) الإقرار بمحدودية العلم اللاهوتي/الدينى وهو ما يعنى أن رجال الدين وعلمهم اللاهوتي/الدينى محدودون بحدود وطبيعة أدوات المعرفة اللاهوتية والتى هى فى الأساس معرفة نقلية مبنية على العقائد والروايات والإيمان لا على الحجج والأسانيد العلمية القائمة على الملاحظة والمشاهدة والاختبار. هذا الإقرار كان هاما لأنه كان يعنى القبول بسيادة العلم ونتائجه وتطبيقاته، ومن هنا كان مفتاح الثورات الصناعية والتكنولوجية التى أحدثت الفوارق الكبيرة بين المجتمعات الحديثة وبين المجتمعات المتخلفة أو الرجعية.
***

لم تكن صياغة هذه الأطر سهلة، ولكنها جاءت فى التجربة الغربية بعد صراعات كثيرة، تعلَّم فيها البشر الكثير من الخبرات حتى تم التوصل إلى تلك الصيغة الحديثة التى حققت الضمانات الثلاث الأهم، الأولى هو ضمان حق المتدين وغير المتدين (أيا كان الدين المقصود) بالتمتع بنفس الحقوق والحريات (ضمانة المواطنة)، والثانية هى ضمانة حق الجميع فى ممارسة الدين أيا كانت طبيعته (ضمانة الحرية)، والثالثة هى التأكد من أن أيا من الممارسات الدينية غير مبنية على التمييز أو العنصرية تجاه أتباع أى ديانة أخرى أو تجاه غير المتدينين (ضمانة التعددية).

لكن أين تقف المنطقة العربية من هذه التطورات وكيف يمكن لها أن تتخذ خطوات على الطريق الصحيح للتقارب مع المجتمعات الحديثة؟ هذا هو ما أحاول الإجابة عنه المقالة القادمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved