صلاح ومالك: ظلال صورة فى نيويورك

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 28 أبريل 2019 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

جمعت صورة واحدة تحت الأضواء الباهرة فى قاعة «لينكولن» بنيويورك اثنين من الشبان المصريين الموهوبين اختارتهما مجلة «تايم» الأمريكية ضمن مائة شخصية مؤثرة فى العالم.

أولهما ــ لاعب كرة القدم المحترف فى صفوف نادى «ليفربول» الإنجليزى «محمد صلاح»، الذى حاز بنسقه الأخلاقى وقدراته الفنية مكانة خاصة كأنه ابن لكل أسرة مصرية.

وثانيهما ــ السينمائى الأمريكى المنحدر من أصول مصرية «رامى مالك» الحائز على جائزة «الأوسكار» كأفضل ممثل عن فيلم «بوهيمان رابسودى».

رغم أنه ولد فى الولايات المتحدة واكتسب كامل تكوينه الفنى والإنسانى بعيدا عن موطنه الأصلى إلا أنه لم يتردد فى إبداء اعتزازه بالانتماء إليه حضارة وإرثا فى لحظة مجده.

رسالة الصورة واصلة ــ بالضرورة ــ إلى كل شاب موهوب أنه يستطيع أن يشق طريقه لنجاح مماثل فى مجاله إذا ما توافرت بيئات حاضنة لحرية الإبداع والتنافس وفق القواعد الحديثة.

لا يصح التهوين من قدر الإضافة التى جرت لرصيد القوة الناعمة المصرية فى محيطها وعالمها التى تآكلت بفداحة فى العقود الأخيرة، فـ«صلاح» و«مالك» ينتميان إلى منظومتين دوليتين بالغتى الانتشار والتأثير، حيث سطوة الصورة بالمتابعة تبلغ مداها.

بذات القدر لا يصح إنكار حيثيات وأسباب تراجع القوة الناعمة، وأن الإضافة التى جرت إلى رصيدها جاءت من بيئة أخرى.

كلاهما بنى صيته خارج الحدود وفق قواعد الاحتراف والمهنية والكفاءة والقدرة على المنافسة والإبداع وتقديم مستويات عالية استحقت الاحتفاء الإنسانى بها.

هذه حقيقة أساسية فى ظلال الصورة.

بافتراض أن ذلك اللاعب الصغير الذى تحمل مشقة هائلة بإمكانيات مادية شحيحة أملا فى فرصة تلحقه بناد كبير، حقق ما كان يتطلع إليه فهل كان يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه من مستوى فنى وبدنى أهله للتنافس على أفضل لاعب كرة قدم فى العالم الموسم الماضى؟

لا أدرى مشاعره عندما رفضه النادى القاهرى الشهير، ربما تصور أن هذه نهاية العالم، ربما بكى فيما كانت الأقدار تدخره لمستقبل آخر خطا إليه بموهبته عبر تجارب عديدة فى الدوريات الأوروبية.

وبافتراض أن الممثل الشاب لم تهاجر أسرته إلى الولايات المتحدة ولم تتح أمامه شبه فرصة للتنافس والإبداع، فإن أقصى ما كان يمكن أن يحصل عليه أدوار ثانوية فى أفلام تجارية.

هناك حقيقة لا يمكن إنكارها أن مستوى الإنتاج السينمائى والتلفزيونى سقط من حالق، إلى حد أن السيناريست والمسرحى الراحل «محفوظ عبدالرحمن» استقر فى اعتقاده أن الدراما المصرية تتعرض لمؤامرة.

سألنى: «هل لديك تفسير آخر؟».

باتساع النظر فإن التجريف الثقافى والأدبى والفنى الذى لحق بمصر على مدى سنوات طويلة أفقد البلد جانبا جوهريا مما كانت تتمتع به من حضور وتأثير فى عالمها العربى بقوة الإبداع وإلهامه.

إذا لم يكن هناك مشروع ثقافى ينهض بالآداب والفنون والذائقة العامة يصعب التعويل على إرث الماضى وحده فى بناء القوة الناعمة.

بالتكوين الإنسانى والشخصى لأديب العربية الأكبر «نجيب محفوظ»، كأنه «حضرة المحترم» حسب رواية له تحمل هذا الاسم، يصعب تصور أن يحظى بما وصل إليه من مكانة إذا لم تكن البيئة الثقافية العامة مستعدة لاحتضانه والاحتفاء بموهبته.

عندما عرض عليه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» الانضمام إلى كبار المثقفين والكتاب فى الدور السادس من «الأهرام» سأله: «ما المطلوب منى؟».

ــ أن تكتب رواية فى العام تنشر على حلقات، ولا شىء آخر.

عندما وصل الخمسين من عمره احتفلت به «الأهرام». شاركت سيدة الغناء العربى «أم كلثوم» فى المناسبة، وأعدت مجلة «الهلال» برئاسة تحرير «كامل زهيرى» عددا خاصا كتب فيه كبار الكتاب والنقاد الأدبيين.

هذه الدرجة من التبنى والاحتضان لكبار الأدباء كما للأصوات الجديدة نفتقدها بفداحة.

أرجو أن نتذكر أن الدور القيادى المصرى فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى اكتسب أرضيته من تأثير السينما والغناء والصحافة والمجلات الأدبية التى كانت تكتب فى مصر وتوزع فى أنحاء العالم العربى.

لا أدوار مؤثرة تنشأ فجأة بمحض المصادفات السعيدة.

القوة الناعمة هى البنية الفوقية للقوة الخشنة، والفصل بينهما مستحيل.

وهى أقرب إلى خزان يضاف إليه بالزيادة ويسحب منه بالنقصان.


نضوب الخزان من حيويته وقدرته على التجديد إنذار شديد اللهجة للمستقبل.

للصعود حيثياته وللتراجع أسبابه.

الاستنتاج نفسه يصح على البيئة العلمية والأكاديمية.

هناك نحو (300) ألف مصرى حصلوا على درجتى الدكتوراه والماجستير من الجامعات الأمريكية والكندية والأوروبية.

إلى أى حد استفاد البلد منهم؟

هناك من بقى فى الخارج خشية البيئة الطاردة

وهناك قوة علمية كامنة فى البلد لا تجد البيئة التى تدعم تطلعها للإبداع والابتكار بما يخدم مجتمعها ويفى باحتياجاته.

تجربة العالم الراحل «أحمد زويل» تستحق المراجعة، تخرج فى كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، ووصل إلى ما وصل إليه بفضل المستوى العلمى الذى كانت عليه الجامعات المصرية بستينيات القرن الماضى حتى التحق بجامعة «كالتيك» فى كاليفورنيا، حيث مكنته قواعدها فى البحث العلمى من إنجازه الذى استحق بمقتضاه جائزة «نوبل» فى الكيمياء.

لأسباب عديدة أخفق مشروعه لتأسيس بنية علمية أكاديمية تستهدف إنتاج جيل جديد من العلماء وفق أحدث المقاييس العالمية.

بعض الأسباب وليست كلها تعود إلى البيئة البيروقراطية الطاردة.

وقد كانت التصريحات الصادمة التى أطلقها رئيس جامعة القاهرة أمام أعداد كبيرة من الطلاب بحفل فنى تعبيرا عن الحجم المروع للتدهور فى واحد من أهم مصادر القوة الناعمة المصرية.

كان أخطر تلك التصريحات إضافة (5%) لطلاب الفرقة الرابعة غير درجات الرأفة المقررة للتحول من خانة الراسبين إلى قوافل الخريجين.

بغض النظر عن الصورة المسيئة التى تحدث بها، والتى لا تليق برأس أكبر وأقدم جامعة مصرية، فإن الكلام نفسه يطعن فى العملية التعليمية بأسرها حتى يكاد يزهق روحها.

أرجو أن نتذكر أن الجودة النسبية للتعليم فى مصر ساعدت على توفير بنية فوقية أخرى للقوة الخشنة المصرية فى فترات الصعود.

إذا لم يكن هناك مشروع جدى للنهوض بالتعليم يصعب الرهان على أى مستقبل، أو على أية استعادة ممكنة لمصادر القوة الناعمة المصرية.

على هذا المنوال يمكن فتح كل الملفات التى تتعلق بالقوة الناعمة، كيف صعدت ولماذا تراجعت؟

وهذه ليست مسئولية «صلاح» و«مالك» اللذين جمعتهما صورة موحية بالأمل وحولها ظلال فى نيويورك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved