العيد في البلكونة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 28 أبريل 2022 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

لم تبلغ بعد الساعة السابعة صباحًا إلا وبدأ كونشرتو تنفيض السجاجيد في بلكونة الحاجة آمال استعدادًا لاستقبال العيد الصغير، لسه بدري يا حاجة آمال.. بدري على العيد وبدري في نهار رمضان، والنوم في هذا الشهر الفضيل عزيز والواحد منّا لا يكاد يظفر على مدار اليوم إلا بهذه الساعات التي يغفل فيها بعد صلاة الفجر بقليل، لكن أبدااااا، هناك جدول زمني ولابد أن يُحترَم. يبدأ الجدول بتنفيض السجاجيد قبل العيد بأسبوع ويثنّي بغسل كل ما يقع تحت يد الحاجة آمال من أقمشة من أول الستائر والملاءات والمفارش وحتى أغطية كراسي الصالون، وقبل العيد بيومين تجري عملية تنظيف شاملة لقفص الببغاء وبيت الكلب الچيرمن شيبرد، وفي الأثناء يتم التخلص من بعض الكراكيب ومعظمها لُعَب قديمة للأحفاد وحتى للأولاد فإذا بالمكان يبدو أوسع وأكبر من المعتاد. طبعًا لا يسلم الأمر على مدار العام من القيام ببعض هذه المهام المنزلية لكن ليس بهذا التتابُع ولا بهذه الهمّة الفائقة، فهناك معاونة بنيتها قوية تأتي خصيصًا لعمل تنظيفة العيد، وقد صرنا نحن الجيران نعرفها بحكم التعوّد. الطريف أنه قبل أيام قليلة من الآن كان نفس هذا الكونشرتو المقلق في الصباح الباكر ينبعث من بلكونة الست أم بيشوي تأهبًا لاستقبال عيد القيامة، وتقريبًا كان الجدول هو نفسه جدول الحاجة آمال مع بعض الاختلافات الطفيفة بحكم اختلاف الظروف، ومنها أن الست أم بيشوي لا تحتفظ في بلكونتها لا بكلاب ولا بعصافير لأنها تعاني من مرض الحساسية، وأن بلكونتها أكثر اخضرارًا ومليئة بالصور والأيقونات التي تحتاج من معاونتها الموسمية عناية خاصة. في كل الأحوال فإن الابتهاج بقدوم المناسبات والأعياد الدينية شعور لطيف جدًا وله أثر الفراشة كما يقولون أي أنه ينتشر ويسري في الأجواء، والنتيجة النهائية تبدو مبهرة فعلًا ويمكن ملاحظة آثارها بوضوح، لكن آه لو تم تأجيل مهمة تنفيض السجاجيد بالذات حتى الساعة التاسعة صباحًا مثلًا- لكان الوضع أريح بكثير.
• • •
فيما يبدو فإن التجهيزات الماراثونية التي تجتاح البلكونات هي من المظاهر القليلة المتبقية للاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية، حتى رمضان ومع أن تزيين البلكونات بالورق الملوّن هو عادة قديمة ومنتشرة خصوصًا في الأحياء الشعبية ترحيبًا بالشهر الكريم، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت طفرة في مستلزمات الزينة الرمضانية التي اجتاحت البلكونات وبأسعار تتجاوز بكثير إمكانيات المواطن العادي. حبال الأنوار بمختلف ألوان قوس قزح تزغلل أنظار المارة في الغدّو والرواح وتتدلّى من الأسوار الحديدية أو تلتّف حولها، أهلّة معدنية كبيرة تحتضن لفظ الجلالة بحروف بارزة تُثبّت فوق الجدران، كسوة المقاعد البامبو تحتلها شخصيات الليلة الكبيرة مع ظهور خاص لبائع الكنافة وشيخ الجامع وفي يده مسبحة، حتى الفوانيس التي اختفت من تجمعات الصغار في الشارع اتخذَت مكانها في الزوايا والأركان، باختصار صارت البلكونات هي صناديق البهجة التي تُفتَح على مصراعيها بشكل موسمي. ومع ذلك فإن هذا الدور الاحتفالي الذي تلعبه البلكونات لم أكد ألمسه فيما قرأت من أدب البلكونات وهو أدب غني جدًا بالمناسبة على مستوى مصر والعالَم أجمع، وإن كان كاتبًا مثل عادل أبو زيد تفنّن في الحكي عن أشكال أخرى من البهجة منبعها البلكونة عندما كتب عن "مصر من البلكونة"، فأشار إلى أن البلكونة قد تكون مسرحًا للغناء والطرب (شحات الغرام لمحمد فوزي وبأمر الحب لعبد الحليم حافظ وقول لي أيوه لصباح- ليست سوى أمثلة قليلة)، ومكانًا للتسلية في وقت الفراغ بلعب الطاولة والدومينو والورق (فيك عشرة كوتشينة في البلكونة لمحمد عبد الوهاب)، وساحة للثرثرة والنميمة واجترار الذكريات مع أصحاب الزمن الجميل (بالضبط كما كتب جميل مطر في مقاله الرائق عن الشرفات الخلفية)، كما أنها قد تكون شاهدة على بدايات قصص الحب- التلقائية منها والمُفتَعَلة (المشهد الشهير لفؤاد المهندس في فيلم عائلة زيزي وهو يشرح لخطيبته بمنتهى خفة الظل الأشكال الهندسية المختلفة للبلكونات)، لكنني لم أر عند عادل أبو زيد وظيفة للبلكونة تشبه وظيفة التجهيز لاستقبال العيد، مع أن الحاجة آمال والست أم بيشوي شخصيتان حقيقيتان جدًا.
• • •
سوف يجد البعض أن كل ما تحدّثتُ به عن بهجة العيد في البلكونة يتوارى أمام سيل العشوائية في الطلاء والبناء والتقفيل والزخرفة الذي اجتاح بلكونات المحروسة- لا فرق في ذلك بين التجمعات السكنية حيث الإسكان الفاخر للطبقة العليا والوسطى العليا، والمساكن الشعبية والمتوسطة للسواد الأعظم من الشعب، وحول هذا المعنى كتبت الناقدة حنان شومان مقالها "مصر في البلكونة" تقصد به أن البلكونات هي عبارة عن مرايا انعكست عليها التطورات الاقتصادية-الاجتماعية التي مرّت بها مصر في العقود الأخيرة وأفقدت فن المعمار ذائقته الجمالية التي كانت تميّزه. هذه الملاحظة صحيحة وكلنا شهود عليها، لكن من داخل هذا القبح الذي يؤذي العين تتولّد بعض مظاهر الإمتاع والإبهاج، أو لنقل بعض علامات الحياة بلغة أهل الطب، فتلك الهبّة المفاجئة التي تجتاح البلكونات المصرية قبل الأعياد هي مؤشّر على الوجود والاستمرار والتجدّد والحيوية، وهي دليل على الوَنَس والأُلفة والقواسم الاجتماعية المشتركة بين المصريين كافةً مسلمين ومسيحيين. ولنقل أن هذا هو النصف الملآن من الكوب.
• • •
طار النوم من عيني كما تطاير الغبار من سجاجيد الحاجة آمال على وقع الضربات القوية التي تلقّتها على يد معاونتها المحترفة. انتبهتُ إلى أن عليّ أنا أيضًا بعد يومين أو ثلاثة أن أضع جدولي المنزلي المماثل، تناولتُ أقرب ورقة يمكن أن أطولها ورحت أدوّن عليها بخط متعرّج مهام الخميس والجمعة والسبت.. المهم أن ينتهي كل شيء قبل يوم الأحد لعله يكون صباح العيد، كل عام وأنتم بخير .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved