النظام الدولى.. الثراء والقوة وغياب الريادة الرشيدة (1)
نبيل فهمي
آخر تحديث:
الإثنين 28 أبريل 2025 - 6:10 م
بتوقيت القاهرة
هناك تساؤلات عديدة حول شكل وأقطاب النظام الدولى المعاصر، بين عودة عالم القطبين الأمريكى والروسى، أو استبدال روسيا بالصين، أو بقاء الثلاثة أقطاب للعالم، وهل سيقودنا قطب أوحد أمريكى أو صينى، واحتمالات إقامة نظام سوى ومتعدد الأطراف، لا يتمتع فيه أى طرف بالقدرة على حسم الأمور بطريقة فردية، أم نحن على أبواب نظام متعدد الأقطاب تتكاثر فيه الأطراف القوية المتنازعة، تساؤلات عديدة ومتباينة فى مرحلة مضطربة وانتقالية حساسة وخطرة.
تسلط الأضواء دائما على الأطراف الأكثر ثراءً والأعظم قوة، وتعتبر الأكثر نجاحا وتميزا فى ساحات ومجالات، رغم اختلاف وأحيانا تناقض مجالا عن الآخر، منها الحرب أو السلام، والبناء والهدم، والاقتصاد والمال، والصناعة والتجارة…إلخ.
تقدير الثراء والقوة يختلف حسب الظرف والحالة، مع تنوع الاعتبارات والمعايير التى تدخل فى التقييم، وإذا اعتبرنا أن نسبة الناتج القومى لكل مواطن فى الدولة هى المعيار السليم لتحديد الثراء، سنجد أن لوكسمبورج أغنى دول العالم، وتليها سنغافورة ومنطقة ماكاو الصينية، فى حين أن الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد ستكون مرتبتها العاشرة، والهند خامس اقتصاد فى العالم ستقع ترتيبها رقم ١٢٤، فى حين أنه إذا اعتبرنا أن المعايير الصحيحة للثراء هى الناتج القومى مع الأخذ فى الاعتبار القدرة الشرائية الموازية، سنجد أن ترتيب الدول هو الصين، الولايات المتحدة، الهند، روسيا، اليابان، ألمانيا، إندونيسيا، البرازيل، فرنسا، وبريطانيا.
وإذا سعينا لوضع معايير لتقييم القوة فى عالم وصل فيه الإنفاق العسكرى إلى 2,46 تريليون دولار، منهم ما يتجاوز 824 بليون دولار من جانب الولايات المتحدة الأعلى إنفاقا، علينا إضافة بل تغليب القدرات العسكرية والسياسية، علما أن القوة ليست مطلقة ولكل حالة وساحة اعتبارات عسكرية برية وبحرية وجوية طويلة وقصيرة المدى …إلخ حسب الطبيعة الجغرافية، وبالمنظور العام والأهداف والطموحات السياسية، على المستوى الإقليمى أو الدولى، ومن الواضح للكل أن الطموحات الغربية الأمريكية الأوروبية تتنافس، إنما تختلف عن المنظور اليورو آسيوى لروسيا وحتى الصين، وجميعهم يختلفون فى المنظور السياسى وأهداف دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا وأغلب آسيا، وما جدوى مقارنة قدرة عسكرية لدول من المستحيل أن تدخل فى صدامات عسكرية مباشرة نظرا أن لأحدهم طموحات دولية والآخر وطنية أو إقليمية فحسب، وما أهمية من يتفوق فى القدرات البحرية أو البرية بين دول شاسعة مطلة على المحيطات والبحار وأخرى صغيرة غير ساحلية على الإطلاق.
القدرات المادية والعسكرية ضرورية فى توفير احتياجات الشعوب وحماية مصالح الدول، إنما هناك مبالغة فى التركيز على الثراء والقوة، وأرى من الخطأ الاعتماد على أن القوة أو الثراء لهما صفة الدوام، فضلا عن أن الثراء المهيمن مضر والقوة الغاشمة ظالمة.
على مدى الزمن أحدثت التطورات السياسية والعالمية تغييرات واسعة على مستوى الدول، منها ما واكب تآكل وانهيار الاستعمار الأوروبى القديم، وانتهاء الحرب الباردة مرحليا بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، وخروج سيطرة شركات الطاقة على قوائم أضخم وأغنى الشركات العالمية لصالح شركات الاتصالات والبرمجة والرقمنة والتكنولوجيات وأصحاب الابتكار التكنولوجى وصعود سلم الثراء سريعا إلى مستويات لم تكن فى الحسبان سابقا، تطورات غيرت من شكل وطبيعة النظام الدولي، وتعريف القوة وشكل الحروب، التى أصبحت أكثر فتكا وتدار على مسافات بعيدة.
هذا وعادة تحتفظ الأطراف المتفوقة من حيث القوة والثراء بمكانتها عبر مدى زمنى طويل أو متوسط الأجل، وتنقل الريادة تدريجيا، وقد تسرع المعدلات مع ظهور لحظات فارقة تغير من المعادلات والتنافسية، ومنها ما يرتبط بأحداث سياسية مثل الحروب العالمية، أو توجهات سياسية جديدة مثل حركات التحرير، أو تطورات اقتصادية واجتماعية نتيجة للفتوحات التكنولوجية، مثل الثورة الصناعية فى القرن الماضى، أو الثورة التقنية والاتصالات عبر الخمسين سنة الماضية ، لأن العالم فى حالة تغير مستمرة تتغير فيها نسب الثراء وتوازنات القوة.
وأما الريادة فهى مسألة مختلفة تماما، وتتجاوز الثراء والقوة، وتشمل اعتبارات عديدة أخرى، مثل القدرة على التأثير على الغير، وتبنى مواقف وسياسات وتجربة يرغب الغير أن يحتذى بها لفترات ممتدة، ويفترض فى صاحبها احترام الحق ونبذ الباطل ومراعاة المصلحة العامة، وأن يكون مثالا وتجربة يأملها الغير ويتطلع إليها، مثل الفلسفة الاشتراكية بقيادة سوفيتية خلال القرن الماضى، وكذلك المنظومة الليبرالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى عقود قريبة من الزمن، إلى أن فشلت وتفككت إحداها وانكشفت الأخرى لتطبيقها معايير مزدوجة داخليا وخارجيا أفقدتها رونقها ومصداقيتها، وصعدت حركة عدم الانحياز سريعا لتوفير بديل آخر ضمير وميزان العالم، غير أنها فقدت رونقها ومكانتها مع انغماس أعضائها فى المشاكل اليومية والطموحات قصيرة الأجل، رغم أن أعضاءها دول متوسطة والأكثر احتياجا لنظام دولى مستقر.
ويجمع العالم الآن الإثراء والقوة وإنما يغيب عنه الريادة الرشيدة الحكيمة السوية، ونظمنا ومؤسساتنا تمر الآن بمرحلة مضطربة، ولم يتضح بعد من الدول أو المنظمات التى تستحق وتحظى بالدور الريادى المستقبلى على المستوى الدولي، الأمر الذى يفرض علينا وبعجالة اتخاذ بعض الخطوات الاستباقية المرحلية لضبط الأمور ومنع تفاقمها، على غرار مفاهيم إدارة الأزمات، نسعى فيها إلى تجنب انهيار وتفتيت النظام الدولى كلية، مع تكثيف البحث والجهد الجاد للوصول إلى سبل إصلاح النظام الدولى الحالى، وجعله أكثر اتساقا مع الواقع السياسى العالمى، وأكثر قدرة على التصدى لتحديات المستقبل قبل أن تفلت الأمور مرة أخرى.
نقلا عن إندبندنت عربية