مستقبل العملات الرقمية.. وتحديات الرقمنة المالية
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 28 أبريل 2025 - 6:10 م
بتوقيت القاهرة
عند إعدادى رسالة الدكتوراه عن «دور المعلومات فى التسعير وتحقيق كفاءة الأسواق مع التطبيق على أسواق تداول الأوراق المالية»، كان الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر من العام 2009 قد تحدد موعدًا لمناقشة الأطروحة، وهو العام ذاته الذى شهد تعدين أول كتلة من عملة بيتكوين، التى تعد العملة الأشهر من بين العملات المشفّرة المتداولة فى الأسواق اليوم. قلة من الناس فقط من عرفوا تلك العملة آنذاك، وأقل منهم من فهموا تقنياتها وشبكتها، التى ظلت قيد التطوير من قبل أطراف عدة، وفى مقدمتهم مطلق العملة (الذى نعرفه باسم ساتوشى ناكاموتو)، استجابة لملاحظات المتعاملين الأوائل.
الأطروحة تناولت فى جانب منها تطور النقود ووظائفها ودور المعلومات فى صناعة القيمة والتكوين السعرى لمختلف الأصول والسلع، وقد كانت توقعاتى آنذاك تصب (بشكل مبسّط طبعًا) فى انتهاء تدريجى حتمى للنقود القانونية والائتمانية فى صيغتها المادية، واستبدال الصيغة الرقمية بها، ثم تطوّر تلك الصيغة لتصبح عملة عالمية موحّدة تصدر من جهة واحدة مركزية أو ربما لامركزية (وهو الجانب الذى لم يتحقق بعد من تنبؤات الرسالة). لكن العملات الرقمية والمشفّرة كما نعرفها اليوم لا تؤدى بالضرورة وظائف النقود، بل هى تفتقر إلى بعض أهم خصائصها، لكنها تلبّى احتياجات أخرى، وتعمل فى محافظ الكثيرين كأداة استثمار.
***
شهدت تقنيات العملات الرقمية والبلوكتشين (أو سلسة الكتلة) تقدمًا كبيرًا فى السنوات الأخيرة، خاصة فى الدول النامية. من بين التطورات البارزة كان انتشار العملات الرقمية للبنوك المركزية، حيث شهد العام 2024 اختبار أو استكشاف أكثر من 134 دولة لأشكال من العملات الرقمية للبنوك المركزية، ما يمثل حوالى 98% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى. تهدف هذه العملات الرقمية إلى تعزيز الشمول المالى وخفض تكاليف المعاملات، وضمان أنظمة دفع آمنة. على سبيل المثال، نجح مشروع خوكه Khokha فى جنوب أفريقيا فى اختبار العملات الرقمية للبنك المركزى للمدفوعات بالجملة، مما أدى إلى تقليل أوقات التسوية من ساعات إلى ثوانٍ. أما الهند، فقد أطلقت مشروعها الرائد للروبية الرقمية فى عام 2022، مما ساهم فى تبسيط عمليات الدفع وتقليل الاعتماد على النقد، حيث تم تسجيل أكثر من مليون معاملة فى العام الأول فقط لإطلاق المشروع.
تُستخدم تقنيات سلاسل الكتل أيضًا فى تطبيقات مبتكرة تتجاوز العملات الرقمية. فى جنوب إفريقيا، تقود تلك التقنية تحول قطاع التمويل التجارى، ما يُمكّن المعاملات عبر الحدود داخل القارة الأفريقية بسلاسة، كما تُستخدم العقود الذكية فى قطاع الاستثمار لضمان الشفافية والكفاءة. أما فى الهند، فتمثل تقنية سلاسل الكتل ثورة فى سلاسل التوريد الزراعية، حيث تساعد المزارعين فى تحقيق أسعار عادلة وتقليل الهدر بنسبة 15-20%. من ناحية أخرى، تقدم أنظمة الهوية القائمة على تقنيات سلاسل الكتل الخدمات الأساسية لما يقرب من مليار شخص عالميًا، يفتقرون إلى وثائق هوية رسمية.
أما عن الأداء، فقد شهدت العملات الرقمية نموًا ملحوظًا فى الدول النامية. على سبيل المثال، شهدت إفريقيا زيادة مذهلة بنسبة 1,200% فى تبنى العملات الرقمية بين عامى 2020 و2022، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى الحاجة إلى تحويلات منخفضة التكلفة، حيث تبلغ رسوم التحويلات التقليدية فى المتوسط حوالى 6,3%، بينما تقل تكلفة المعاملات بالعملات الرقمية عن 1%، ما يجعلها الخيار المفضل للمدفوعات عبر الحدود. كما حسنت تقنية البلوكتشين الشفافية فى سلاسل التوريد، ما أدى إلى خفض التكاليف بنسبة تصل إلى 20% فى أنشطة مثل الزراعة والتصنيع. بالإضافة إلى ذلك، شهدت دول مثل «السلفادور»، التى اعتمدت البيتكوين كعملة قانونية! زيادة بنسبة 30% فى إيرادات السياحة بسبب الأنشطة المتعلقة بالعملات الرقمية.
***
رغم هذه الإنجازات، لا تزال هناك تحديات قائمة، تتمثّل أولًا فى الضبابية التنظيمية، حيث تفتقر أكثر من 60% من الدول النامية إلى لوائح واضحة لتقنيات البلوكتشين والعملات الرقمية. كما أن الاستهلاك المفرط للطاقة فى شبكات سلاسل الكتل يثير مخاوف بيئية واقتصادية (أشرنا إليها فى مقال سابق)، حيث يستهلك تعدين البيتكوين وحدها سنويًا ما يفيض عن احتياجات الأرجنتين من الكهرباء. إضافة إلى ذلك، تتضاعف المخاطر الإلكترونية المرتبطة بالتوسّع فى التعامل على هذا النوع من المنتجات الرقمية، وقد تسببت المخاطر الإلكترونية، بما فى ذلك الاحتيال والاختراقات وأعمال القرصنة، فى خسائر تجاوزت 3 مليارات دولار عالميًا فى عام 2023، ما أثّر بشكل خاص على الدول النامية ذات البنية التحتية الرقمية الأضعف.
***
بالنظر إلى المستقبل، يحمل دمج تقنيات سلاسل الكتل مع التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعى (AI) وإنترنت الأشياء (IoT) إمكانية إحداث تغييرات جذرية فى القطاعات الصناعية والخدمية، خاصة فى الدول النامية. يمكن لهذه التقنيات أن تعالج تحديات الموارد المحدودة، حيث تسهم أنظمة البلوكتشين المدعمة بإنترنت الأشياء فى تحسين إدارة المياه بشكل كبير فى المناطق التى تعانى من ندرتها. وفقًا للتقديرات، يمكن لهذه الأنظمة أن تساعد أكثر من 2,2 مليار شخص عالميًا فى الحصول على مياه آمنة بشكل مستدام، من خلال إدارة دقيقة لاستهلاك الموارد المائية وتقليل الفاقد.
المستقبل واعد لهذه التقنيات، خاصة عندما يتم دمجها مع الذكاء الاصطناعى لتحليل البيانات بشكل أعمق وتوفير حلول مبتكرة. على سبيل المثال، يمكن أن تسهم هذه التقنيات فى تحسين إدارة الأمن الغذائى، عبر مراقبة سلاسل التوريد بشكل مستمر وضمان توجيه الموارد بفعالية. هذه التطورات تحمل فرصًا كبيرة للدول النامية للتغلب على التحديات المرتبطة بالتنمية المستدامة، مع تحقيق تقدم اقتصادى واجتماعى يدفع المجتمعات نحو مستقبل أكثر توازنًا وإنصافًا.
لضمان نجاح تطبيق هذه التقنيات، يتطلب الأمر تعاونًا وثيقًا بين الحكومات والقطاع الخاص. الحكومات مسئولة عن توفير بنية تحتية قوية، وضمان تنظيم القوانين التى تتيح استخدام هذه التقنيات دون عوائق. أما القطاع الخاص فيتحمل مهام الاستثمار فى أنشطة الابتكار وتنفيذ المشروعات التى تعزز الاستفادة من سلاسل الكتل وإنترنت الأشياء. على سبيل المثال، فى جنوب إفريقيا، ساهم دمج هذه التقنيات فى تحسين كفاءة سلاسل التوريد وتقليل الهدر بنسبة تصل إلى 20%، ما يخلق فرصًا جديدة للشركات والمجتمعات المحلية.
ولأن الفرص عادة ما تصاحبها مخاطر مستحدثة، تتخذ الدول ضوابط متعددة للحد من مخاطر استخدام العملات الرقمية فى غسل الأموال وتمويل الإرهاب. أحد أهم تلك الضوابط تتمثّل فى إصدار تشريعات وقوانين صارمة، تُلزم مقدمى خدمات الأصول الرقمية بالحصول على تراخيص أو تسجيل رسمى للعمل. على سبيل المثال، تطلب الولايات المتحدة من الشركات التى تتعامل مع العملات الرقمية الامتثال للوائح هيئة فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية (FATF)، التى تقدم توصيات عالمية لضمان مراقبة مُحكَمة للأنشطة غير القانونية. هذه الأطر تهدف إلى تعزيز الشفافية وتقليل فرص استخدام العملات الرقمية كوسيلة لتجاوز الأنظمة المالية التقليدية.
كما تبنّت عدة دول نهجًا قائمًا على إدارة المخاطر المرتبطة باستخدام العملات الرقمية، من خلال تطوير أو تبنّى استخدام منصات وتطبيقات للتعامل مع تدفقات الأموال الرقمية، وإلزام بعض الشبكات الكبرى بتطبيق مبدأ اعرف عميلك. ويتم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى وتحليل البيانات الضخمة لمراقبة الأنماط غير العادية فى المعاملات المالية الرقمية. فى الهند -مثلًا- يتم تطبيق أنظمة تحليل متقدمة لتحديد المخاطر المحتملة وضمان الامتثال للقوانين. وفى اليابان، يُطلب من الشركات التحقق من هويّات العملاء عند القيام بالمعاملات الرقمية، ما يحد من المخاطر المتعلّقة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ويُعتبر التعاون الدولى من أهم ركائز مواجهة تلك المخاطر، حيث يساعد تبادل المعلومات حول الأنشطة المشبوهة عبر الحدود، على الكشف المبكّر عن المخاطر والحد منها. ويعمل الاتحاد الأوروبى على تنسيق لوائح بين الدول الأعضاء، لضمان مكافحة فعّالة لغسل الأموال عبر العملات الرقمية.
كاتب ومحلل اقتصادى