حرب المعادن النادرة

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 28 أبريل 2025 - 6:05 م بتوقيت القاهرة

 

بعيدة النظر، كانت الصين، حينما تبنت، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضى، استراتيجية متكاملة ومستدامة، لاحتكار سلاسل إنتاج، وتنقية وتصنيع الموارد الأرضية النادرة. وذلك عبر بناء وتطوير البنى التحتية اللازمة، علاوة على تدشين منظومة صناعية مركبة، تشمل عمليات استخراج المعادن، تكريرها، وإنتاج المغناطيسات المستخدمة فى الصناعات التكنولوجية. ورغم كونها أنشطة تعدينية كثيفة الطاقة، باهظة الكلفة، غزيرة الانبعاثات الغازية الضارة، تمكنت الحكومة الصينية، بحلول نهايات القرن العشرين، من إنجاح استراتيجيتها وتحديث منظومتها، بكلفة تنافسية، ووفق معايير بيئية متواضعة. الأمر، الذى خولها تجاوز وإقصاء باقى المنافسين، حتى أضحت تحتكر سلاسل توريد المعادن الحيوية.

وفقا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية، تحتكر الصين استخراج 61% من المخزون العالمى لتلك المعادن، 92% من أنشطة تنقيتها، 90% من إنتاج المغناطيسات المشتقة منها، وتُقدّر بحوالى 200 ألف طن سنويا. كما تؤكد بيانات المسح الجيولوجى الأمريكى، امتلاك الصين 44 مليون طن من أكاسيد تلك المعادن، تمثل نصف الاحتياطى العالمى، الذى يتخطى 90 مليون طن. وهى بذلك تسيطر على سلسلة التوريد الخاصة بقائمة المعادن، التى تضم 17 عنصرا، تستخدم  فى تصنيع المغناطيسات، التى تحول الطاقة إلى حركة، وتشكل العمود الفقرى لصناعات حيوية فائقة التقنية، تشمل: المسيرات، المقاتلات الشبحية، الغواصات الهجومية المعتمدة على الطاقة النووية، السيارات الكهربائية، تكنولوجيا الطاقة النظيفة، الإلكترونيات، المركبات الفضائية والأقمار الاصطناعية. وتوخيا منها لتكريس تلك الهيمنة، أدرجت بكين منذ عام 2023، معادن تحتكر إنتاجها مثل: الأنتيمون، الجرمانيوم والجاليوم، ضمن قائمة المنتجات، التى تستوجب تصريحا حكوميا قبل تصديرها. كما حظرت فى ديسمبر الماضى، بيعها للولايات المتحدة، ما بات يهدد قطاعات إنتاجية وتكنولوجية أمريكية عديدة، لاسيما صناعة السيارات، التى يُتوقع أن تنفد مخزوناتها من المغناطيسات الأساسية فى غضون ثلاثة أشهر.

حتى ثمانينيات القرن الماضى، كانت الولايات المتحدة، تتصدر قائمة منتجى المعادن الأرضية النادرة عالميا. ومع تعاظم التكلفة الاقتصادية، استهلاك الطاقة، والانبعاثات الملوثة للبيئة، بدأت الشركات الأمريكية تنسحب تدريجيا من هذا المضمار، تاركة إياه لهيمنة نظيراتها الصينية، المدعومة من الحكومة. ولم يعد بحوزة الولايات المتحدة، حاليا، سوى منجم وحيد يمكنه إنتاج تلك المعادن، دونما معالجة للثقيل منها. فبعدما تم تفكيك البنى التحتية اللازمة، أمست الصين الوجهة المعنية بمعالجتها. واليوم، أضحت واشنطن تستورد من بكين غالبية احتياجاتها من هذه المعادن. ويؤكد تقرير جيولوجى أمريكى، اعتمادها، خلال الفترة ما بين 2020 و2023، على الواردات الصينية بنسبة 70%، فيما استوردت محطات الطاقة النووية الأمريكية 99% من اليورانيوم المُستخدم فى صنع وقود المفاعلات طوال العام 2023.

تشتد وطأة مأزق واشنطن، مع ولوج المعادن النادرة حلبة النزال التجارى المستعر بينها وبين بكين، لتجعله صراعا جيواقتصاديا حامى الوطيس. فبموجب حقها فى تقييد تصدير «المنتجات ذات الاستخدام المزدوج»، الذى تكفله لها معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية؛ ردت بكين على الرسوم الجمركية الأمريكية المتفاقمة، باستخدام «سلاحها الجيوسياسى»، عبر تقييد إمداد واشنطن بسبعة معادن حيوية. الأمر الذى، من شأنه الإضرار بالصناعات الدفاعية والتكنولوجية الأمريكية المتطورة، وتقويض قدرتها التنافسية؛ خصوصا بعدما تتضاعف أسعار المنتجات المدنية والعسكرية، المعتمد تصنيعها على هذه المعادن. ومؤخرا، أكد، إيلون ماسك، الرئيس التنفيذى لشركة «تسلا» تأثر إنتاج روبوتات «أوبتيموس» الشبيهة بالبشر، بالقيود الصينية على المغناطيسات المصنوعة من مثل هذه المعادن.

ضمن مقاربته لتكريس الاستقلال الاستراتيجى، الهيمنة على أمن الطاقة العالمى، وتوطين مقومات الصناعات الدقيقة والمتطورة ومستلزمات الذكاء الاصطناعى؛ يتبنى، ترامب، استراتيجية متكاملة بشأن المعادن الأرضية النادرة، تقوم على: تعزيز أمن الإمدادات، بما يكفل تقليص الاعتماد المقلق على الصين فى اقتنائها، معالجتها، وتحريرها من الاحتكار الصينى المستميت لها. وفى سبيل ذلك، أمر بالتحقيق فى المخاطر، التى تهدد الأمن القومى الأمريكى، نتيجة الاعتماد المتزايد على واردات المعادن النادرة ومشتقاتها، كما وجه بإعادة تطوير البنية التحية والابتكار التقنى. وأوعز إلى وزارة التجارة للعمل على ابتكار سبل لدعم إنتاج تلك المعادن محليا، وتقليص الواردات. وقرر، ترامب، إعطاء الأولوية لإنتاجها على الأراضى الفيدرالية، عبر إقامة منشآت لمعالجتها داخل القواعد العسكرية الأمريكية. كما كلف ثلاث شركات أمريكية متخصصة فى استخراجها وتنقيتها، بتوسيع قدراتها الإنتاجية. وأمر بإعادة تشغيل المنجم الوحيد «ماونتن باس» فى كاليفورنيا.

دوليا، يحرص، ترامب، على بناء سلاسل توريد أكثر تنوعًا، عبر التوسع فى إبرام الاتفاقات بشأن استخراج تلك المعادن وسواها من الموارد الحيوية، بمختلف أصقاع المعمورة. فقبل قليل، وقع مع أوكرانيا، اتفاق بشأن استغلال معادنها الأرضية الحيوية، نظير المساعدة المالية والعسكرية الهائلة التى، قدمتها واشنطن لكييف، منذ بدء الغزو الروسى لها عام 2022. وفى فبراير الماضى، عرض رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، التى تعد شريكا محوريا فى إعادة رسم خارطة سلاسل التوريد العالمية للموارد الأرضية الحيوية، شراكة مع الولايات المتحدة؛ تقوم على مبدأ «المعادن مقابل الأمن». وبموجبها، تستفيد بلاده من تعاون أمنى مع واشنطن، يخولها استخراج ومعالجة ثرواتها المعدنية الحيوية؛ مقابل التزام أمريكى بدعم وتأهيل قدرات البلاد الدفاعية والأمنية، لمواجهة الجماعات المسلحة المتمردة. كذلك، يتطلع ترامب إلى بلورة صيغة تتيح له الاستحواذ على ثروات جزيرة جرينلاند، التى تحتضن أراضيها ثامن أكبر مخزون عالمى من المعادن الأرضية النادرة. كما يعمل على صياغة أمر تنفيذى، يسمح بتخزين مثيلاتها الموجودة بقاع المحيط الهادى، ضمن حملة أوسع تستهدف المسارعة فى أنشطة التعدين بأعماق البحار، مع توفير قدرات معالجة برية، بموجب القانون الأمريكى.

بتحديات شتى، تصطدم استراتيجية ترامب لاستعادة الهيمنة على سلاسل إنتاج المعادن الأرضية النادرة. حيث تستبعد دراسات اقتصادية وتقنية، أن تؤتى أكلها، قبل خمسة عشر عاما، من مساعى التخطيط، الاعتماد، حتى بدء الإنتاج. فمقارنة بسلاسل الإمداد الصينية، تتطلب جهود إعادة تفعيل الخيارات المحلية، أو إيجاد سلاسل توريد بديلة من دول حليفة، لاستخراج، تكرير وتصنيع تلك المعادن، استثمارات ضخمة ومستدامة، طاقة هائلة، بيئة تنظيمية محفّزة، تحديثات تقنية؛ لا تخلو من مخاطر جسيمة. وبينما أوقفت شركة «إم بى ماتيريلز»، المالكة لمنجم المواد النادرة الأمريكى الوحيد، شحن المعادن المهمة إلى الصين، فى سياق حرب الرسوم الجمركية؛ نفت شركة «شينغهى ريسورسز»، الصينية، أى تأثير لهكذا خطوة على الإنتاج الصينى، الذى يستخدم المونازيت بديلا. مثلما  يحرص على تنويع سلاسل التوريد، منذ انكماش واردات الصين من المعادن النادرة الأمريكية، بنسبة 13.7% عام 2023، و16.9% العام الماضى.

فى حين يعول البعض على كندا، لتدشين سلسلة إنتاج بديلة للمعادن النادرة الصينية، تؤكد مؤسسة العلوم والسياسة ببرلين، نجاح شركات صينية، خلال العقدين الماضيين، فى تمويل العديد من مشاريع الموارد الخام بكندا، حتى أضحت الخاضعة منها لسيطرة الدولة مساهما رئيسا فى كبريات شركات التعدين الكندية. وبينما اشترت شركة "شينجه"  الصينية أسهمًا فى منجم المعادن النادرة الوحيد بكندا، تقوم شركة «سينومين» الصينية بتشغيل أحد منجمى الليثيوم هناك، وتنقل المادة الخام المستخرجة منه إلى الصين لمعالجتها. كما تتولى الشركة منذ عام 2019، تشغيل منجم السيزيوم الوحيد الخاص بأمريكا وأوروبا، ومعالجة مواده الخام، مما يعزز سيطرتها التامة على سلسلة توريده.

تحت وطأة الحرب التجارية، التى أشعلها، ترامب، مطلع الشهر الحالى، بفرضه رسوما جمركية بنسبة 145%، واجهتها بكين بأخرى تبلغ 125%؛ جمدت الصين، التى تهيمن على ما نسبته 28.9% من المشهد الصناعى العالمى، عام 2023، وتمتلك ورقة ضغط حيوية تتمثل فى حيازتها نصيب الأسد من سندات الديون الأمريكية؛ صفقات لشراء طائرات «بوينج» أمريكية. وعطلت استيراد الغاز الطبيعى المسال والقمح، فيما قلصت استيراد سلع أمريكية أخرى، بشكل حاد. كما أوقفت صناديق الاستثمار الصينية المدعومة من الدولة، استثماراتها فى الأسهم الخاصة وشركات أمريكية عملاقة متخصصة فى إدارة الأصول والاستثمارات.

رغم استعار أوار الحرب التجارية بينهما، تتبارى واشنطن وبكين فى الجنوح للتهدئة. رأفة بالاقتصاد العالمى المتهرئ، وتلافيا لخسائر جسيمة متبادلة تلاحق أكبر شريكين تجاريين فى كوكبنا. فبينما يؤكد، ترامب، قرب إدراك تفاهمات مرضية ومفيدة مع الصين، يشدد سفير الأخيرة لدى واشنطن، على اتساع الأرض، بما يكفى، لاستيعاب تطلعات القطبين المتنافسين. ضمن تعاون بناء وتعايش سلمى، يجنبانهما خسرانا مبينا، وينقذان النظام التجارى العالمى من انهيار محقق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved