بعيدًا عن الرمز والبطولة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 28 مايو 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

تزامن الحديث عن قرب عودة المفاوضات المباشرة بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى مع عرض فيلم «ثلاثة آلاف ليلة» للمخرجة مى المصرى بسينما زاوية بالقاهرة، بعد أن لاقى نجاحا كبيرا فى عدد من المهرجانات. وهو ترسيخ جديد لأسطورة الصمود والشموخ، كما دأبنا أن نصورها فى خيالنا منذ بدايات القضية، يقوم على تنميط الشخصيات والتأكيد على فكرة تحويل شعب إلى مجموعة من الأيقونات التى تقترب معاناتها من تضحيات الأنبياء والصبر على الابتلاء، دون تأرجح بين الأبيض والأسود والمساحات الرمادية بين البشر. هذا الفيلم الروائى الطويل الأول لمى المصرى التى عرفت بأعمالها التسجيلية، والذى يدور حول حياة السجينات الفلسطينيات خلف القضبان داخل إسرائيل، لم يأت بجديد، بل لم يخرج من الإطار الذى يعجب دراويش القضية الفلسطينية عادة حول العالم، عندما نحول شعب بأسره إلى أيقونات حية تلبس الكوفية وترفع أصابعها بالنصر، أيقونات ضائعة بين الوطن والذاكرة ويوميات الحزن العادى والنكبة، دون الوصول بعمق لتناقضات البشر وما اعتراهم من تشوهات وخلافه، تحت وطأة الظرف السياسى الذى استمر منذ سنة 1948.

***

ونتساءل ألم يحن الوقت لأن نسعى حثيثا لتقديم هؤلاء الناس بطريقة مغايرة تبعد عن ثنائية البطولة أو التخوين، العمالة أو النضال، الضحية أو الجلاد؟ ألا يمكن سوى أن ننتظر منهم أن يكونوا رمزا، فنظلمهم ونظلم أنفسنا؟ نريد أن نرى شيئا مختلفا أكثر تعقيدا وتشابكا من بلاغة صورة الولد الذى يقف أمام الدبابة فى غزة ويرميها بالحجارة، فيصبح فيما بعد أفيشا أو ملصقا نضعه على حائط المكتب أو جدران المدينة. فى ظنى أن الذاكرة والمخيلة العربية اكتظت بالفعل بالأيقونات الفلسطينية، بداية من ياسر عرفات وصولا إلى المغنى الشاب محمد عساف، وما بينهما من صور لأبطال المقاومة بلحاهم المحفوفة بعناية أو الطفلة ملك (14 سنة) أصغر سجينة فلسطينية لدى إسرائيل، ضمن حوالى 200 قاصر آخرين خلف القضبان، والتى اتهمت بأنها كانت تحمل سكينا لقتل جندى إسرائيلى، بالقرب من الطريق السريع 60 بالضفة الغربية، الذى يسلكه عادة المستوطنون.

***

نتذكر أيقونة أخرى باقية فى الأذهان، رغم وفاة مبدعها، وهى شخصية حنظلة لرسام الكاريكاتير الراحل «ناجى العلى»، هذا الطفل الذى سيظل طفلا فى العاشرة من عمره، يعطينا ظهره لأنه غير راض عن أدائنا منذ أن خلق فى أعقاب هزيمة 1967، إذ جاءت النكسة لتلحق بالنكبة، ومن بعدهما توالت الخيبات.

حنظلة يضع دوما يديه خلف ظهره، ويحمل غضبا يشبه الغضب المتراكم داخل أطفال فلسطينيين آخرين يقفون أحيانا أمام المحاكم العسكرية الإسرائيلية والتى يسمح لها القانون بمحاسبة أطفال من سن الثانية عشرة. يعترفون أحيانا بما لم يفعلوه بسبب الخوف وأشياء أخرى، يدانون ويبقى غيرهم بالخارج، لكن ذلك لا يمنع أنهم يلخصون العديد من الحكايات والروايات التى تنطوى على تناقضات أبناء جيلهم وصراعاتهم الداخلية.

لم أكن من البداية بصدد كتابة نقد فنى حول فيلم «ثلاثة آلاف ليلة»، لكن أثار العمل فى نفسى شجونا حول نمطية الصورة والرغبة فى كسر رمزية السجن والعصفور والمقاومة، دون إجحاف لأحد ودون أن يعتبر ذلك تقليلا من شأن معاناة شعب، بل هى محاولة لأنسنة قضية محورية فى حياتنا وتاريخنا،
للنزول بها إلى أرض الواقع دون تأليه لأصحابها، للحديث بعمق حول العلاقة مع الجيران، حول النص غير المقدس، حول رؤيتهم لجنة الماضى المفقودة أو المصير المعلق فى المنفى أو حلم العودة إذا ما وجد، حول تداعيات السياسة على ذواتهم. وأعتقد أن هناك مساحة تتسع لمناقشة كل هذه الأفكار من خلال الكتابة الأدبية أو السينما أو الموسيقى، إلى ما غير ذلك. أظننا فى مرحلة مختلفة يجب أن تخرج عن إطار «الدروشة» والحب أو الكره المطلق. وفى حالة فلسطين، الوقت أو طول الفترة الزمنية يعطينا حرية لكسر حصار تفكيرنا. وقد بدأ ذلك بالفعل فى بعض الأعمال الإبداعية الأخيرة، ولكن يبقى استثناء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved