قصة قصيرة: «صندوق النقد الدولي»

محمود الخفيف
محمود الخفيف

آخر تحديث: الثلاثاء 28 مايو 2019 - 10:31 م بتوقيت القاهرة

يوم الجمعة الموافق 17 مايو 2019 أنهى فريق صندوق النقد الدولى بعثته التقييمية لمصر بتصريح صحفى يفيد أن مصر قد نجحت فى تنفيذ كل شروط قرض الـ 12 مليار دولار، وعليه يوصى الفريق لمجلس إدارة الصندوق بدفع 2 مليار دولار كقسط سادس وأخير للقرض الذى تسلَّمته مصر فى السنوات الثلاث الأخيرة. وهذا النوع من القروض المشروطة يذكرنى بمفاوضات بين الصندوق ودولة مالاوى سنة 2000 حضرتها كممثل لبنك التنمية الإفريقى. وبغض النظر عن قيمة القرض فالأسباب هى تقريبا نفس الأسباب والشروط تخضع لنفس المنطق. فالأسباب هى عجز الميزانية وعجز ميزان المدفوعات بشكل غير مستدام، العجز الأول يعنى ببساطة أن الإنفاق الحكومى أكبر من الإيرادات أما العجز الثانى فيعنى خروج عملات صعبة من الدولة أكثر مما يدخلها. وبالنسبة للشروط أو وصفة العلاج المتكررة التى يفرضها الصندوق، ويدعمها البنك الدولى، فتتمحور حول ضغط الإنفاق الحكومى، مع تجاهل إمكانية زيادة الإيرادات الحكومية، وغل يد الدولة فى إدارة الاقتصاد للتنمية، وهذا يعنى إلغاء الدعم والإعانات الاجتماعية والتنموية، وخصخصة ممتلكات الشعب. هذا هو جوهر شروط الصندوق على الرغم مما قد يقال إن هذه الشروط تراعى الفقر والفقراء وتضعها الدولة المقترضة دون تدخل من الصندوق.

***
والمفيد من تجربة مالاوى هو بساطة اقتصادها مما يساعد على فهم تبعات الوصفة العلاجية للصندوق. ولذلك دعنا نسرد وصفا مختصرا للحالة المالاوية. مالاوى دولة بدون منفذ بحرى فى منطقة السافانا فى النصف الجنوبى من إفريقيا حيث تتأرجح كمية الأمطار الموسمية السنوية ما يؤدى لسنوات جفاف بين الحين والآخر، تعداد البلد فى سنة 2000 كان حوالى 12 مليون نسمة (الآن 20 مليونا)، وهى من أفقر عشر دول فى العالم مع نقص غذائى مزمن؛ حيث يعيش أكثر من ربع السكان فى فقر مدقع وربع آخر تحت خط الفقر، مصدر الغذاء الأساسى والرئيسى للغالبية العظمى من السكان هو الذرة، وهناك جزء من السكان لا يأكل إلا الذرة ولا يستطيع حتى التفكير فى أى مصدر من مصادر البروتين الحيوانى، اقتصاد مالاوى تقريبا ينتج سلعتين فقط: الذرة (للاستهلاك المحلى) والتبغ أو الدخان (للتصدير، ويقال إن مصر كانت تستورد 40% من إنتاج مالاوي). استقلت مالاوى من الاستعمار البريطانى فى منتصف ستينيات القرن الماضى وبعد ذلك أسس أول رئيس لمالاوى، السيد باندا، هيئة لإدارة المخزون الاستراتيجى للذرة لتخزين الزائد فى سنوات الوفرة ولتوفير الذرة فى سنوات الجفاف وتفادى المجاعات. كذلك أُسست شركة طيران وطنية كانت كل ما لديها فى سنة 2000 طائرة بيونج 737 تحمل حوالى 150 راكبا وطائرة أو طائرتين مروحيتين، وكانت الشركة تطير إقليميا فقط وأساسا إلى جنوب إفريقيا لنقل المواطنين وموظفى الدولة من وإلى خارج البلد بأسعار معقولة.

اقتصاد مالاوى الهش، والذى رسخ هشاشته الاستعمار البريطانى القديم وقدمه لقمة سهلة للاستعمار فى ثوبه الجديد، كان يعانى من تضخم، واتباعا لتوصيات الصندوق والبنك الدوليين كان الحل لمواجهة الزيادة فى الأسعار هو رفع سعر الفائدة لسنوات فى النصف الثانى من التسعينيات لأكثر من 50%، وذلك بدعوى أن ذلك سيحد من الطلب على السلع، وبالتالى يؤدى لتخفيض تضخم الأسعار. وهذه وصفة قاتلة لأن تضخم مالاوى هو «تضخم هيكلى» وليس تضخما ناتجا عن زيادة الطلب بل راجع لقلة المعروض نظرا لضعف القدرة الإنتاجية للاقتصاد وقلة الأمطار وعدم قدرة الزراعة على تلبية احتياجات الفقراء من الذرة والسلع الأساسية، الحل الأنجح فى هذه الحالة ليس بخنق الطلب عن طريق رفع سعر الفائدة وتقزيم الإنفاق العام، بل اتباع سياسة استثمارية ــ صناعية ــ زراعية تستهدف توسيع ورفع كفاءة القاعدة الإنتاجية وزيادة العرض وزيادة العمالة والقدرة الشرائية للشعب. وكانت النتيجة الطبيعية لرفع سعر الفائدة الحاد والسياسة التقشفية أنه فى أواخر التسعينيات زاد العجز المزمن لكل من ميزانية الحكومة وميزان المدفوعات وتضخم الدين العام، فاضطرت مالاوى لطلب قرض من الصندوق والبنك لسد هذين العجزين.

***
وطبعا فى إطار الليبرالية المتوحشة وإطلاق عنان ما يسمى بالسوق بلا ضابط أو رابط ولخدمة مصالح الدول الغربية المسيطرة على مجلس إدارة الصندوق، تمخضت المفاوضات عن «الاختيار الحر» لحكومة مالاوى لبرنامج قرض شروطه تعنى ببساطة بيع كل ما لدى شعب هذه الدولة الفقيرة من خلال: أولا ضغط الإنفاق العام، ثانيا حل هيئة إدارة المخزون الاستراتيجى للذرة وبيع المخزون وذلك بدافع أن رواتب موظفى هذه الهيئة تزيد من الإنفاق الحكومى وأن هذا المخزون يساعد الحكومة على التدخل فى سعر الذرة فى السوق، وثالثا خصخصة شركة الطيران الوطنية.

وكانت النتائج قاتلة، وهذه ليست كلمة مجازية بل بالفعل قتلت الليبرالية الجديدة بتوحش وقتل برنامج صندوق المئات إن لم يكن الآلاف من سكان مالاوى. فبعد سنة من بيع مخزون الذرة وحل هيئته، ضرب الجفاف مالاوى، وقتلت المجاعة المئات فى سنة 2001 و2002، وعانى 5 ملايين إنسان من الشح الغذائى الحاد وسوء التغذية، بالفعل وبشكل مباشر قتلت شروط الصندوق بلا رحمة البشر من سكان مالاوى.

وبالنسبة لشركة الطيران الوطنية فقد عُرضت للخصخصة فى 2003 ولم تجد مشتريا إلا فى 2013، وقد تكون طائرات الشركة الثلاث أو الأربع قد كُهنت أو بيعت بسعر بخس فى هذه الأثناء بعد خصم العمولات وضريبة الفساد التى لا تعود للدولة، ومن الممكن أن يكون المشترى قد اشترى فقط خطوط الشركة وامتيازاتها فى مالاوى وبالطبع أى أرباح من الشركة الجديدة سوف تخرج من البلد ولن تساعد فى سد عجز ميزان المدفوعات، وأكيد أن أسعار السفر زادت عن ما كانت عليه.

والآن وبعد حوالى 20 سنة من تطبيق شروط الليبرالية الجديدة المتوحشة، ما زالت مالاوى من أفقر عشر دول فى العالم وما زال أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر وما زال ربع السكان يعيشون فى فقر مدقع. بالطبع مصر ليست مالاوى وأكيد أن اقتصاد مصر أكثر تنوعا وأكثر تعقيدا من اقتصاد مالاوى، ولكن المغزى هنا أن مالاوى حالة يسهل قراءتها ويظهر فيها تأثير برامج الصندوق بوضوح. والأكيد أيضا أن الغالبية العظمى من الدول التى لجأت للصندوق ورضخت لشروطه لم يتطور اقتصادها تطورا نوعيا بل قد زادت تبعيتها للدول الغنية الغربية وزادت سيطرة واستغلال الاستعمار فى ثوبه الجديد من خلال مجلس إدارة الصندوق وما شابه ومن خلال الدول المانحة ومؤسساتها التى يسمونها «مؤسسات تنموية». ولكن على الجهة الأخرى فالأكيد أن اقتصادات الدول التى لم ترضخ لتوصيات الصندوق، حتى فى ظل وجود أزمات حادة، قد تطورت وانتقلت نقلات نوعية للأمام، على سبيل المثال فى كوريا وماليزيا وإندونيسيا بعد أزمة جنوب شرق آسيا فى أواخر القرن الماضى، وبعد ذلك فى الأرجنتين ثم فى البرازيل.

«هذا المقال يعكس رؤية الكاتب وليس بالضرورة رؤية المنظمة التي يعمل بها».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved