«حمام الذهب».. باب آخر للتسامح!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 28 مايو 2020 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

أفضل ما تقدمه هذه الرواية التونسية لقارئها؛ هو اختيار الحب كقيمة مطلقة، تتجاوز الزمان والمكان واختلاف العقائد والألوان، واعتبار التسامح كفكرة محورية، بدونها لا نستحق الحياة.
لعل الرواية تطرح أيضا بعض التفاؤل بأن تجعل الأجيال الأصغر والأحدث، أكثر تمسكا بالحب والتسامح، أتمنى فعلا أن تكون هذه الأجيال مؤمنة بذلك على مستوى الواقع، وليس على مستوى واقع الرواية الموازى.
«حمام الذهب» لمؤلفها محمد عيسى المؤدب، والصادرة عن «مسعى» و«مسكيليانى للنشر والتوزيع»، والتى وصلت إلى قائمة البوكر العربية الطويلة 2020، تستلهم كذلك قصصا شعبية أسطورية عن هذا الحمام الذى تحمل الرواية اسمه، وتحاول أن توظفها فى إطار بناء سردى محكم.
أحببت كثيرا هذا الحضور الغامض للقديم والأسطورى، بدا كما لو أن حكاية اليهود التوانسة، والرواية تقدم لهم ولتاريخهم ردا للاعتبار، ضاربة فى أعماق الزمن منذ هروبهم من الأندلس، وانتمائهم إلى تونس، كما أن استرجاع الأسطورة يؤكد أن حكاية اليهود وثرواتهم راسخة فى التراث الشعبى، وفى ذاكرة الناس المتوارثة والحية.
ولكن هذا الاستلهام بكل دلالاته ورمزيته سرعان ما أضعف الرواية، وذلك بالإصرار على تحويل الكنز الافتراضى، إلى كنز حقيقى يتم فعلا الوصول إليه، مما جعلنا أمام حبكة شبه بوليسية يجب إغلاق أقواسها، بينما الكنز الحقيقى فى الرواية متمثل، كما أعتقد، فى الحب والتسامح، وفى فكرة العودة للوطن.
لم تكن الرواية فى حاجة إلى كنز حمام الذهب، بل لم تكن فى حاجة إلى خط آخر يقوم فيه بطل الحكاية سعد باكتشاف كنز قديم فى حجرة سفلية فى البناية أو الوكالة القديمة التى يقيم فيها، هذا الخط الذى تطلب أيضا إغلاقا للأقواس، أبعدنا قليلا أثناء السرد عن الخط الأصلى، وهو حكاية حب سعد المسلم التونسى، لهيلين اليهودية التونسية، وهى حكاية تستغرق سنوات طويلة من عمر البلد وظروفها، وصولا إلى ديسمبر من العام 2010، حيث تصبح تونس فى انتظار ميلاد جديد.
من المفهوم بالتأكيد أن سعد هو بطل ضائع، ويكاد يصبح انعكاسا لظروف جيل بأكمله، ولكنه اختار أن يصبح صيادا للكنوز، وأن يتورط فى جريمة اكتشاف بعض الآثار، ويسجن خمس سنوات بسبب ذلك، ولا أعرف بالضبط كيف يمكن أن تأتلف حياة فتاة يهودية تونسية تتمسك بهويتها وبتاريخها المطمور، مع حياة شاب ضائع يتاجر فى تاريخه المطمور، ولا يتردد فى بيعه لمن يدفع دولارات أكثر!
هنا يحدث الارتباك، رغم نجاح محمد عيسى المؤدب فى رسم معالم معظم الشخصيات، بل إن حكايات الأجيال المختلفة من يهود تونس تبدو قوية ومؤثرة، بالذات فيما يتعلق بحكاية أسرة هيلين، التى أجبرت على ترك تونس إلى مارسيليا، وكذلك حكاية جوهر أو أورى اليهودى، الذى تبنته أسرة مسلمة، بعد مجازر النازيين تجاه أسرته.
حتى حكاية منجية، والدة سعد، وعائلتها كانت مليئة بالتفاصيل الحية والذكية، الأم تترجم الوجدان الشعبى سواء فى نظرتها لليهود، أو فى ارتباطها بالعادات والتقاليد، أو فكرة التحايل على الحياة والمعايش وسط ظروف صعبة وقاسية، وفى مجتمع يهمش الفقراء، ويسحقهم سحقا.
تجذبنا رحلة البحث عن الكنز حتى السطر الأخير، وتعيدنا إلى بدايتها الجيدة، حيث يقبع سعد فى المستشفى، ويريد الجميع حكاية القصة، ولكن رحلة الكنز ونهايتها تثير بعض التشوش، فمن ناحية الدلالة الرمزية هى بحث عن الجذور، عن اليهود التوانسة العائشين فى الوطن رغم رحيلهم، ولكن من ناحية الدلالة الواقعية، نحن أمام تنقيب غير شرعى عن الآثار.
نهاية سعد ونهاية هيلين تثير كثيرا من التشوش: بائع الكنوز الوطنية، والباحثة عن الهوية والذاكرة والحب الضائع، تضعهما الرواية فى سلة واحدة، تضطرب الفكرة، ويصبح المعنى غريبا، هاوية تنتظر هيلين، بدلا من الجان الذى يبتلع الصبابا، يبتلع هيلين طموحها، وفرحتها بوطنها وتاريخها، الحكاية الخرافية عندما عولجت وفق ظروف الحاضر الملتبسة، خرجت إلى دلالة أخرى معقدة، وأعتقد أيضا أنها دلالة لم تكن مقصودة، وإنما يمكن قراءتها بسبب المشكلة الفنية فى النص، وليس نتيجة لأى أسباب أخرى.
رغم ذلك، فإن «حمام الذهب» تنتصر لجيل لارا، ابنة هيلين، بوصفها تمثل المستقبل، مثلما تتعاطف مع جوهر أو أورى، باعتباره الماضى الذى يستحق البقاء والتقدير، يتسامح النص مع قصص الحب العابرة للأوطان، ويجعل لارا ثمرة رائعة لإحدى هذه القصص، تتعدد أصوات السرد لتحفظ الحكاية، ويبقى الحمام مثلما يبقى مقام سيدى محرز، مكانين للتطهر والاغتسال من أدران الحياة، من تعصبها ومن قسوتها، مكانين للذاكرة وللهوية، يعود فيهما الإنسان مجردا من العالم ومن الهموم، ومستعدا لاستقبال بعض الفرح، وبعض الحرية، والكثير من الأمنيات والأحلام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved