الوظيفة.. قاتل ذباب محترف

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 28 مايو 2022 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

انتظرناه، وطال انتظاره. لا أحد يريد التعدى على مجال اختصاصه فى غيابه، فيمدنا بمبيد حشرى أو بمذبة يدوية تقليدية للتخلص من الذبابة التى طيرت النوم من عيوننا، مع الخيوط الأولى للشمس. الجميع يترقب وصول الخبير، فله دوام محدد بعدد معين من الساعات مثل كل الموظفين الإداريين، بين التاسعة صباحا والرابعة مساء. أما إذا ظهرت ذبابة فى حجرة أحد المرضى فى غير مواعيد العمل الرسمية، فهذا من سوء حظه لأن «قاتل الذباب المحترف» الذى يتلقى راتبا شهريا ليخلص نزلاء المشفى الكبير من أزيز الذباب ولكاعته، ليس موجودا.
شباك الغرفة التى تطل على النيل لا يفتح، فهو مصمم كى تتأمل النهر وجريانه عن بُعد، لكن لا يطالك نسيمه. بانوراما زجاجية بديعة لا يدخل منها الهواء، ولا يخرج منها الذباب، وإذا تسربت إليك إحدى هذه الحشرات الطائرة منجذبة إلى حرارة الجسم ورائحة العرق والملح أو ثانى أكسيد الكربون الذى يطلقه البشر، عليك أن تحاول طردها بنفسك أو اصطيادها، وإذا لم تفلح سيأتيك الخبير فور وصوله ليلعب دور المخلص.
• • •
يرتدى قبعة بايسبول زرقاء، وضعها بالمقلوب من باب الأناقة، وحذاء رياضى أبيض يصدر إشارات ضوئية حمراء مع الحركة. ويمسك بيديه سلاحه الأساسى: صاعق الذباب الكهربائى الذى يشبه مضرب التنس. يصوبه نحو الفريسة بمهارة ملحوظة فتسقط صريعة على الأرض خلال ثوان.
هناك شىء مسلٍ ومرح فى أدائه. الثقة التى يتهادى بها، السرعة التى يناور بها الذباب، الرغبة فى إعطاء انطباع بالسيطرة على الموقف، الشعور بالزهو بعمليات القتل المتكرر التى ارتكبها على مدى حياته العملية داخل المشفى. منذ أن استلم وظيفته قبل خمسة عشر عاما، اكتشف فى نفسه عقلية القاتل المأجور، ذلك الذى لا يسعى للانتقام بل ينفذ مهمته بدقة وبرودة أعصاب ورباطة جأش وحرفنة. يحسن تقدير المسافات بينه وبين الهدف، ثم يصوب بمنتهى التركيز وينهال عليه بالمضرب الذى اعتاد على استخدامه. وأكثر ما أراح باله هو ذلك الرأى الصادر عن دار الإفتاء بجواز قتل أى حشرة أو حيوان طالما فى تواجده ضرر على الإنسان أو مثَّل أذى، كالنمل والناموس والذباب.
• • •
لم يقم قط بعملية جرد لسنوات عمره الضائعة، بل وضع كل همه فى تعليم أولاده كى لا يشعر أن أيامه ضاعت سدى. ولذات الغرض، أقنع نفسه طيلة هذه السنوات بأهمية وظيفته ليتمكن من الاستمرار فيها، حتى لو عرف فى قرارة قلبه أن شغلته ليست ذات قيمة. يقضى جزءا كبيرا من يومه متنقلا بين الغرف، يتعامل مع أشخاص مختلفين يقفون وجها لوجه مع المرض، يرى الموتى ويلمس حزن ذويهم، ثم يجلس أمام الكمبيوتر ليجرب حظه فى الألعاب الإلكترونية أو يتجول على الفيسبوك، ويقول لنفسه إنه ليس ثمة عمل غير مهم. هكذا يردد الخبراء الاقتصاديون، يمينا ويسارا، مؤكدين على ضرورة خلق وظائف جديدة مهما كان صغرها لكى تدور عجلة المجتمع، حتى لو اختلفوا حول الوسيلة الأفضل لخلقها.
مع بدايات القرن العشرين توقع بعض المراقبين أن تنتقل بعض الأشغال الآلية أو الروتينية المملة من الإنسان إلى الأجهزة والماكينات، خاصة فى الدول الصناعية الكبرى، لكن لم يحدث ذلك فى كثير من البلدان، وظلت هناك مهن أطلق عليها منذ حوالي عشر سنوات أستاذ الأنثروبولوجيا اللا سلطوى والناشط البارز فى حركة «احتلوا وول ستريت»، ديفيد جرايبر (1961ــ2020)، اسم «الوظائف الهرائية»، وهو عنوان كتابه الذى يشير إلى أن 40 فى المائة من العاملين فى جميع أنحاء العالم يرون فى وظائفهم شكلا من أشكال الكدح الذى لا معنى له. يكررون الحركات نفسها، على غرار أسطورة سيزيف اليونانية، ويبدأون من جديد إلى ما لا نهاية، وذلك بسبب آليات اقتصادية واجتماعية وثقافية أكبر منهم.
• • •
لم يفكر قاتل الذباب المحترف فى كل هؤلاء الأشخاص حول العالم، ولم يتمعن مليا فى قدراته الحقيقية، فقد كانت تلك الوظيفة هى أفضل ما وجد لكى يكسب قوت عيشه، فلم يتردد. وحين يغالبه الاكتئاب من وقت لآخر، يعدد أسبابه دون أن يتطرق إلى طبيعة عمله التى تسرق روحه.
لم يسمع كذلك بمصطلحات حديثة مثل (brown out) أى انقطاع الطاقة أو انخفاض التيار، وهى حالة الاستمرار فى عمل دون جدوى ودون رغبة حقيقة، رغم التعب والإنهاك الشديدين. هذا كله ترف لا حاجة له به ولا تحتمله حياته. الأفضل أن يظل يرى نفسه بصورة القاتل المأجور الذى لا يمكن الاستغناء عنه، والذى لولا وجوده لتعذب المرضى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved