إدارة الموارد التاريخية أفريقيا مثالا

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 28 يونيو 2014 - 6:15 ص بتوقيت القاهرة

فى العلاقات بين الدول فإن حسابات المصالح تفوق ذكريات التاريخ والحقائق الجديدة تغلب ما عادها.

ومشكلة مصر فى إدارة أزماتها الأفريقية أنها تتذكر التاريخ فى غير موضعه وتؤسس عليه بغير أساس.

فلا القادة الأفريقيون الحاليون من طراز قادة التحرير الوطنى ولا مصر بقت على حالها.

الرجال اختلفوا والسياسات تناقضت والقارة كلها فى أوضاع جديدة.

التاريخ حاضر فى الذاكرة العامة، فالأفريقى يعتد بمعاركه للانعتاق من التمييز العنصرى ويعتز بأبطاله التاريخيين من أمثال «عبدالناصر» و«نكروما» و«لومومبا» و«نيريرى» حتى أسطورة «مانديلا» لكنه لا يعيش فى الماضى.

لديه كوابيسه وأحلامه وتساؤلات عن مستقبله.

ينظر على الخريطة فيجد مصر فى موقعها لكنه لا يشعر بأثر وجودها.

لا ينكر قيمتها التاريخية لكنه يدرك أن وفرة القضايا المشتركة والمعارك الملهمة فى الماضى لا تصلح عنوانا أبديا لعلاقات الدول.

موارد التاريخ ضرورية بقدر ما تبنى على ما بنيت وأن تكون حاضرا ومؤثرا ومستجيبا لتحديات عصرك.

وهذا ما أهدرته مصر بفداحة على مدى أربعة عقود وما تحتاج أن تصححه الآن وهى تتطلع لفتح صفحة جديدة مع قارتها الأفريقية.

إن لم نتصارح بالحقائق فالخطايا مرشحة للتكرار والتوغل فيها.

فإلى أى حد تدرك مصر أنها قد أخطأت فى التنكر للقارة الأفريقية؟

من حق الرئيس فى إطلالته الأولى على القارة الأفريقية أن يستشعر هيبة التاريخ وهو يقول: «مصر تعود إليكم اليوم».

لكل حرف فى هذه الجملة المقتضبة وقع على الضمير الأفريقى لكن هل عادت حقا؟

إذا كان المقصود رفع تعليق عضويتها فى الاتحاد الأفريقى قبل أيام من قمة «مالابو» فمصر قد عادت ورئيسها قد شارك.

وإذا كان المقصود أنها نجحت فى تخفيض مستويات الاحتقان مع دول القارة وحلحلة أزماتها فهذا صحيح لكنها لم تفتح صفحة جديدة بعد.

هناك فارق أن تتصرف تحت وطأة الأزمات لتفادى أخطارها التى تداهمك وبين أن تكون لك سياسة واضحة تعرف أين مواضع أقدامها وكيف تدير المصالح الاستراتيجية لبلادك.

سؤال الأزمات دعا إلى إعادة اكتشاف أفريقيا من جديد كأنها قارة مجهولة فى القاموس السياسى.

السياسة المصرية سعت إلى القارة تحت وطأة أزمتين خطيرتين لا عن تصور أكثر اتساعا ورؤية أعمق للعلاقات مع القارة.

فى الأولى خطر داهم من احتمالات نقص حصة مصر من مياه النيل بأثر بناء سد النهضة الأثيوبى، وهذه أزمة وجودية جرى التعاطى معها باستهتار على عهد «حسنى مبارك» وخفة على عهد «محمد مرسى»، وفى المرتين جرى التعالى على الحق الأثيوبى فى توليد الكهرباء والتصنيع ومواجهة الفقر المزمن دون جور على النصيب المصرى فى المياه.. وفى الثانية خطر داهم آخر من احتمالات عزلة دولية تستحكم حلقاتها واحدة إثر أخرى بعد تعليق العضوية المصرية فى الاتحاد الأفريقى، ورغم أن قرار التعليق إجرائى ومؤقت إلا أنه أنذر بعواقب وخيمة على مستقبل نظام ما بعد (٣٠) يونيو.

فى الأزمتين حاولت مصر أن تقترب من القارة لدرء المخاطر أكثر من أن يكون سعيا لجلب المنافع. حاولت أن توظف مواردها التاريخية بقدر ما تستطيع فى بناء جسور ثقة جديدة، وهذا حقها فقد دفعت ثمنا باهظا لمواقفها فى احتضان حركات التحرير وقادتها، أمدتها بالمال والسلاح ونسقت بينها ووظفت قدراتها الإعلامية عبر الإذاعات الموجهة فى تعبئة الشعوب الأفريقية وكانت عاصمتها القاهرة عاصمة القارة كلها و«جمال عبدالناصر» بتعبير «نيلسون مانديلا» «زعيم زعمائها».

موارد التاريخ تفسح المجال لكنها ليست هى المجال ذاته.

هناك مصالح ورهانات سياسية واقتصادية واستراتيجية ينبغى البناء عليها وأحاديث التاريخ توفر أجواء مودة وثقة.

ربما لم يلتفت المسئولون والدبلوماسيون المصريون الذين زاروا بلدانا أفريقية فى الشهور الأخيرة سعيا لحلحلة الأزمات أن أفضل ما ساعدهم فى مهمتهم الصعبة أنهم أدوها بلا تعال على أحد.

لا تحدثوا بعجرفة ولا مارسوا آفة التعالى التى استبدت بالسلطات المصرية على مدى عقود. وبصورة أو أخرى فإن العجرفة والتعالى من علامات العجز والتدهور.

ويلفت الانتباه أن كبار المسئولين المصريين الذين لعبوا أدوارا محورية فى القارة يستهجنون هذه اللغة وأصحابها.

وفيما يبدو أن الدولة ترسخت لديها فى سنوات قوتها أن تكون أكثر انضباطا فى استخدام اللغة.

أثناء الأزمة المصرية الجزائرية على خلفية مباراة كرة قدم لفت مؤسس «صوت العرب» «أحمد سعيد» إلى ضرورة توخى دقة العبارة وحساسيتها عند الحديث عن الدور المصرى فى تحرير الجزائر حتى لا تكون مَنا على الأشقاء، فالجزائرى يقدر الدور لكنه يكره المن عليه فقد دفع ثمنا هائلا ليكتسب حقه فى التحرر، مليون ونصف المليون شهيد.

«عبدالناصر» نفسه فى خطابه المقتضب عند زيارتها بعد تحريرها لم يشر لا من قريب أو من بعيد للدور المصرى قائلا: «الحمد لله الذى أحيانا حتى نرى الجزائر عربية».

كانت الجزائر تعرف دوره الحاسم وتقدره وخرجت الملايين تستقبله فى واحد من أروع مشاهد تاريخها الحديث لكنه أعاد الفضل إلى تضحيات الجزائريين وحدهم، والشىء نفسه صنعه فى أفريقيا، لا زعم لنفسه قيادة حركات تحريرها ولا من على قادتها بالأدوار المصرية وترك التاريخ وحدة يتحدث.

من سمات الصعود التاريخى والقدرة على الفعل والتأثير عدم التعالى وتقدير مواقف الشركاء الآخرين ومن سمات التراجع التنكر لتاريخك ومعايرة الآخرين به.

بقدر ما وقفت مصر مع الجزائر لتحريرها وقفت بجوارنا بعد نكسة (١٩٦٧) لإعادة تسليح القوات المسلحة وحاربت قواتها معنا فى حرب (١٩٧٣).

القارة كلها قطعت علاقاتها بإسرائيل فى هذه السنوات الصعبة.

المثير أن صانع القرار لم يكن معنيا بالقارة وانسحب من مسارحها واقتصر دورنا على اتباع الاستراتيجيات والمصالح الأمريكية وتورطنا فى شراكات استخباراتية مع دول غربية وإقليمية لتعقب مواقع الصداع فى القارة ضد الزحف الأمريكى الجديد بحسب وثائق منشورة.

أخلينا مواقعنا عن استهتار بالغ بالمصالح المصرية العليا وزحف آخرون على المواقع التى أخليت.

لم يكن ذلك سوء تقدير سياسى بقدر ما كان منهجا جديدا فى الحكم، فقد تزامن فى وقت واحد تفكيك مقومات الاقتصاد الوطنى والقرار الوطنى ورهن البلد كله لخيار وحيد وضع (٩٩٪) من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة.

استهترنا بالقارة فاستهترت بنا.

وقبل أن نبدأ صفحة جديدة فإننا بحاجة إلى مراجعات جدية للأسباب التى أدت إلى الانكفاء والتهميش. بإرث التاريخ من حق الرئيس المصرى الجديد أن يعاتب قمة «مالابو» «الشعب فى بلادى تألم عندما رأى الاتحاد الأفريقى يتخذ موقفا مغايرا لإرادته» لكنه وهو يبدأ عهده عليه أن يتذكر أن الأفارقة بدورهم تألموا عندما أتخذت مصر موقفا مغايرا لأدوارها وتخلت وتنكرت وتعالت على قضاياها وأزماتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved