شوفينية الطعام

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 28 يونيو 2015 - 11:15 ص بتوقيت القاهرة

إذا ما اجتمع أصدقاء ومعارف من أقطار عربية مختلفة حول مأدبة الطعام، فثق أن الحديث قد يمتد لساعات حول ما لذ وطاب من الأطباق التي تعبر غالبا عن شوفينية الحضور، فالأكل يبرز حساسيات الشعوب، وأحيانا يعكس رغبة دفينة في الانتقام لذاتيتها أمام هيمنة آخرين سادت ثقافتهم لسنوات وطغت حتى صارت مستفزة للبعض.

تقول مثلا صديقة لبنانية وقد ارتسم الفرح على وجهها أنها أتت بالبقدونس معها من بيروت خلال سفرها الأخير، لأن طعمه هناك "غير شكل" و قطعا يؤثر على جودة صحن التبولة. وتبدأ وصلة من الغزل في المطبخ الشامي (المقصود هنا لبنان وسوريا وفلسطين و قد تنضم لهم الأردن مجازا أو العراق بصفته جزءا أصيلا من الهلال الخصيب): فتة المكدوس أو الباذنجان، المناسف.. وكيف يعتمد تحضيرها على لبن الجميد الذي يؤتى به من البلاد، واختلافات الملوخية والمحشي بين دول المنطقة!! يظهر الكبرياء القومي المفرط على السطح ويصل في بعض الأوقات إلى درجة ازدراء واضح لذوق الأقطار المجاورة، وكأننا نكرس فكرة " لا يوجد ما هو أطيب من طبيخ أمي"، التي تشكو منها بعض الزوجات خاصة في بدايات الارتباط والحياة المشتركة.

***

نكتشف بمرور الحديث من هو أكثر تصالحا مع النفس ومع الجوار، عندما ينبري في مصالحة تاريخية بين الشعوب تتعلق بقرص الفلافل، فيشرح أنه يفضل مزج الفول المدشوش (على الطريقة المصرية) بالحمص ( كعادة أهل الشام)، وكأنه لا يرغب في اعلان انتصار طرف على الآخر، وربما تصبح فلافله رمزا للمصالحة القومية! فهو ينتمي لجيل أقدم ويشعر فعليا بانتماء عروبي أوسع، لذا لا يجد غضاضة في التصريح بوصفته السحرية على الملأ. وفي المقابل يتمتم مصري ببعض الكلمات المتلعثمة ليدافع عن طبخات بلاده، تحت تأثير هجوم عرمرم من فريق الشام المتميز، فيحاول أن يرد على الاتهام القائل بأن الطعام في مصر تحول في كثير من الأحيان إلى وظيفة دون لذة.. يدحض الفكرة ويفسر كيف ولماذا ويتطرق إلى طبيعة غذاء الفقراء (ولم يجرأ أن يعترف أمام الموجودين أنه لا يستسيغ مذاق دبس الرمان في ورق العنب البارد أو اليالنجي!! ربما لاهتزاز ثقته بذاته، وهو المنتمي لشعب شوفيني بالأساس، يعتبر نفسه الأهم في المنطقة)، و كأننا بصدد تأكيد فكرة ارتباط المطبخ بعمق وقدم الحضارة، ما يجد صداه في كلام اسكوفيه (Escoffier) أحد رواد المطبخ الفرنسي الذي يتعصب له أهله دون منافس: " لكي يحظى شعب بمطبخ متميز، يجب أن يتمتع في الأساس بثقافة عريقة تمجد تقاليد الاحتفال وبهجة الاستمتاع بالطعام ضمن الأصدقاء، وأن يكون لديه موروث فيما يتعلق بطرق التقديم والتحضير، تعلمه الأم لإبنتها عبر العصور.. تلك هي أسرار المائدة الجيدة"، الموضوع إذاً يتعلق بالمسكوت عنه فكريا وسياسيا وتاريخيا، وهو ما يترجمه بعمق حديث المائدة وما تنم عنه شوفينية الطعام، أليست "الشوفينية" مصطلح سياسي من أصل فرنسي يرمز إلى التعصب القومي المتطرف والمغالى فيه للمجموعة التي ينتمي إليها الفرد؟ فالشوفيني يرى قومه أسمى من غيرهم من الشعوب، سواء بالنسبة للأكل أو لأشياء أخرى، وأحيانا حين لا يكون هناك أشياء أخرى يفتخر بها، فقد يقتصر الأمر على الطعام، و يصبح الموقف أشبه برسم الكاريكاتير المضحك في زمن يتعولم فيه المطبخ كسائر مناحي الحياة، فيتجه أكثر إلى المزج و النسخ.. وتساعد على ذلك برامج وفضائيات الطبخ المنتشرة داخليا و خارجيا.

***

ليس من قبيل المصادفة أن يكون أصل مصطلح "الشوفينية" فرنسيا، نسبة إلى جندي متعصب لوطنيته حارب تحت قيادة نابليون ويدعى نيقولا شوفان، فالفرنسيون من أكثر الشعوب تفاخرا بمطبخهم ونبيذهم وأزيائهم إلخ.. معظمهم مقتنع أنهم الأفضل على مستوى العالم، وكأننا أمام نزعة التفوق الحضاري كما ابتدعتها أثينا قديما، بوضع فئة "المواطنين" أصحاب الحقوق داخل أسوار الحاضرة، واعتبار من عاشوا خارج هذه الأسوار "برابرة". وقد بدأت تلك النعرة الفرنسية تحت حكم لويس الرابع عشر، تحديدا من مطابخ الأرستقراطية. وبعد الثورة الفرنسية ظهرت المطاعم بمفهومها الحديث والمهني، وقام بفتحها طباخو الطبقة الأرستقراطية السابقة الذين سرحوا من عملهم بطبيعة الحال، فقدموا أطباق "السادة" إلى البرجوازية ثم العامة.. ناقش الناس الأفكار السياسية وقتها في المطاعم، وتم استخدام المطبخ لتدعيم أواصر وحدة البلاد، فإلى جانب الأطباق القومية المشتركة بين كل الفرنسيين، كان هناك أيضا ازدهار لأصناف خاصة بكل منطقة على حدة، وهذا لا يتعارض مع ذاك، أي استخدم المطبخ لتحقيق انسجام وتماسك اجتماعي، فحديث الطعام لا يخلو من السياسة وصراع الهويات.. وهو ما يتضح أيضا من خلال المنافسة السياسية والثقافية بين ألمانيا وفرنسا.. إذ غضبت الأخيرة مثلا حين تم اختيار سيدة ألمانية كرئيسة لتحرير كتيب "ميشلان" الذي يضم أشهر المطاعم العالمية وفقا لتقييم متقن.. شعرت فرنسا وكأن ألمانيا أزاحتها من على عرشها، فقد ظلت رئاسة التحرير حكرا على عائلة فرنسية واحدة منذ إصدار الكتيب عام 1900.. لم تحتمل فكرة بزوغ مدرسة ألمانية حديثة للطبخ، ولا أن تتصدر انجلترا قائمة أهم 50 مطعم في العالم، أيضا قبل عدة سنوات، فالمسألة تتعلق بشرف وسمعة عاصمة الطعام والمطبخ الفرنسي التليد الذي اعتبرته منظمة اليونسكو ضمن التراث الإنساني العالمي... والموضوع أعمق بكثير من شوية تبولة وهل نسمي الباذنجان المشوي المخلوط بالطحينة متبل أم بابا غنوج أو كافيار باذنجان.. لكن هي مسألة دمج الهويات والقوميات وتصارعها.. شوفينية دفينة تتجلى من خلال حوار البطون وحديث المآدب الرمضانية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved