لماذا لا يتعلم العرب من الفرس؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 28 يونيو 2019 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

بالطبع لا أتحدث هنا عن الدين إطلاقًا، فالسنة والشيعة لهما منا كل احترام.المقصود هنا هو الرؤية السياسية والمجتمعية والعلمية، بل والقدرة على المناورة وكسب أكبر قدرممكن من التأييد والأرباح، وأقل قدر من العداء والخسائر. كان تراجع ترامب عن ضرب إيران قبل الموعد المحدد بعشر دقائق، مفاجأة للعالم كله، وأولهم أمريكا نفسها، فأمريكا كأكبر دولة فى العالم وأقواها لم يحدث فى تاريخها أن تراجعت بعد إتخاذ قرار الحرب مهما كانت خسائرها، فقد كان الساسة الأمريكيون يحرصون تمامًا على فكرة كرامة وعظمة وسمعة أعظم دولة فى العالم.

نحن نتذكر جورج بوش الابن، عندما هدد صدام حسين رئيس العراق فى ذلك الوقت والذى احتل الكويت أغسطس 1990، بأنه إن لم ينسحب من الكويت فسيقوم بغزوها، وطرده من هناك بالقوة. ورغم قرار مجلس الأمن بعدم شرعية الغزو، إلا أن معظم العالم كان لا يتصور أن تقوم أمريكا بإقتراف مثل هذه الحماقة، لكنه حدث، ولقد كانت هنالك فرصة لتراجع أمريكا إذا كان صدام حسين أظهر نية بالانسحاب من الكويت.

وأتذكر أن الرئيس الأسبق حسنى مبارك ناشده ما يقرب من ثلاثين مرة أن ينسحب، أو يقبل التفاوض لكنه رفض تمامًا ولم يتجاوب. ومن الملاحظ أن ترامب عندما يتحدث عن العرب تكون نغمته وإسلوبه وطريقته مختلفة تمامًا عند الحديث عن إيران، فهو دائما يردد أن السعودية اشترت او سوف تشترى أسلحة من أمريكا بـ400 مليار دولار وأنه سوف يدافع عنها. إنه يتحدث عن دول ينطبق عليها المثل المصرى «وضعهم فى جيبه«، وهذا التعبير عن أى شخص قوى يضغط بكل الوسائل على أخرين (يدعوهم أصدقاء)، ويعرفون ما فى فكره قبل أن ينطق به، أو يترجمون إشاراته، ويسرعون فى التأييد والتنفيذ.

وقد حاولت الولايات المتحدة ذلك مع إيران، لكن إيران خرجت عن هذا السياق مع أنها دولة إسلامية أقرب ما تكون للدول العربية مكانًا وزمانًا. والسؤال هل أمريكا فعلًا تخشى إيران للدرجة التى فيها ابتلعت إسقاط طائرتها، ولم تضربها؟، وكررت أمريكا كلامها عن التفاوض، ولا حياة لمن تنادى؟!.

***
أنا أقول نعم وذلك لسببين: الأول تاريخى يعود إلى القرن التاسع، والثانى معاصر. ولأبدأ بالثانى، لقد دعتنى إيران عام 2014 مع أكثر من عشرين مثقفًا مصريًا ومهتمًا بالشأن العام رجال ونساء، وما رأيناه بأعيننا لم نكن نتصوره أو نتخيله، رأينا بلدًا متحضرًا سياسيًا وثقافيًا واقتصاديا وعلميًا وذلك (رغم الضغط الأمريكى الشديد والحصار). قالوا لنا إن حجاب المرأة الإيرانية سياسى وليس دينيًا، رأينا النساء بشعورهن الجميلة والذى يظهر فى النصف الأول من الرأس مرتبًا ومهذبًا وجميلًا، وهن يخرجن بمكياجهن كامًلا، رأيناهم وهم يشاركون فى كل الأنشطة، رأينا الأنشطة النسائية فى الصناعة والتجارة والعلوم، ليس هذا فقط لكننا رأينا كيف أن الإيرانيين يتقدمون فى التكنولوجيا الحديثة، واستخدامها لأحدث الأفكار والطرق والآلات فى مصانعهم.. رأينا الفيلم الإيرانى الذى يحصل على الكثير من الجوائز العالمية، بينما مصر وهى أول دولة أدخلت السينما فى المنطقة تراجعت فى هذا المضمار. قالوا لنا إن البرلمان يحتوى كل فئات الشعب وممثلوا الشعب يكون نائبًا واحدًا عن 250 ألف ناخب، لكن الأرمن فى طهران عددهم أقل من ذلك بكثير فأصدروا قانونًا ينص على أن كل أقلية مهما كانت مسيحية، يهودية، بوذية... إلخ، لابد من تمثيلها فى البرلمان بشخص، بغض النظر عن العدد. وبالطبع النساء لا مشكلة لهن فى التمثيل البرلمانى. رأينا شوارع نظيفة، ومرورًا منضبطًا، رأينا احترامًا للمواعيد. باختصار رأينا بلدًا متحضرًا، حقيقة لا كلامًا.

ذهبنا إلى منزل الخمينى، الذى رفض أن يترك بيته المتواضع الذى يتكون من حجرتين وصالة فى الدور الأرضى، يستقبل فيه ضيوفه من رؤساء وملوك، بعد أن رفض أن يسكن فى قصور الشاه، لم يخرج الخمينى خارج إيران طوال العشر سنوات التى حكم فيها، كنت أعرف الشيعة من قبل الثورة الإيرانية التى اندلعت عام 1979 حيث كان الشيعة – ومازالوا – يؤمنون بعودة الإمام لأنهم يتبعون مذهب الاثنى عشرية، وعودة الإمام قريبة جدًا من عقيدة عودة المسيح إلى الأرض عند المسيحيين، وكان أثر هذه العقيدة فى الأفراد والشعوب الذين يؤمنون بها أن عليهم تأجيل مشاكلهم وحقوقهم ومظالمهم حتى يعود المسيح فى المسيحية، والإمام الثانى عشر فى الشيعة. من هنا كان لديهم مبدأ «التقية« أى إظهار الشيعى غير ما يبطن حتى لا يضطهد، لذلك كانوا أمام مضطهديهم مسالمين جدًا. وقد تعاملت معهم مباشرة وأتذكر جيدًا مؤتمرات الحوار التى كان يعقدها مجلس كنائس الشرق الأوسط ببيروت فى أواخر الستينات ومعظم السبعينات. وأتذكر الصديق الشيعى الشيخ هانى فحص وكان من أكثرهم ثقافة وروحانية يتفاعل ويحكى لنا عن شيعة لبنان، وكيف أنهم يرفضون حمل السلاح، أو العنف لأى سبب كان. وكان ينظر لمثل هذا الفكر، لكن الخمينى قام بتثوير الشعب الإيرانى، ليس فى إيران فقط، لكن أيضًا فى العالم كله وخاصة فى لبنان (حزب الله)، وذلك بإصداره فتوتين هامتين: الأولى يقول: «إننا ننتظر عودة الإمام وهذه عقيدة ثابتة، فهل ننتظر فى سكون واضعين أيادينا على خدودنا؟ وهل هذا يُرضى الإمام؟ ولكى نكون مستحقين لانتظار الإمام ولا نخجل منه عند حضوره، علينا أن نختار من بيننا من يمكن تسميته بنائب الإمام، خاصة ونحن نعلم مبادئ الإمام. هذا النائب يقوم بقيادة شيعة العالم، حتى يظهر الإمام، وإذا كان الإمام يختاره الله، فنائب الإمام يختاره فقهاء مدينة «قم« والتى تعتبر مدينة التعليم الفقهى للشيعة، ويأخذ نائب الإمام كل سلطات الإمام. أما الفتوى الثانية فتقول: «بما أن هناك نائبًا للإمام إذن لامعنى لوجود عقيدة التقية علينا أن نعبر عن إيماننا وعن أنفسنا بوضوح، وأن نحارب الظلم والفقر والأمية«. بالطبع اُختير الخمينى نائبًا للإمام. وهذا الفكر قريب من فكر «لاهوت التحرير« المسيحى والذى ظهر فى أمريكا اللاتينية. وقد ذكرت ذلك ردًا على سؤال أثناء زيارتنا للجامعة، المهم تم تثوير الفكر الشيعى. وهذا سبب فخر لكل شيعة العالم وخاصة الإيرانيين. وأنا أتذكر دائمًا ما قاله الخمينى من فتاوى بهذا الشأن، لأن رسالتى فى الدكتوراه كانت عن الصحوة الإسلامية فى السبعينات من القرن الماضى، والتى عبرت عن نفسها بالجماعات الإسلامية المتطرفة عند السنة، وبالثورة الإيرانية عند الشيعة، وعندما قدَّمت هذا الفكر لهم فى الجامعة أثناء الزيارة، كانوا سعداء، وفى إندهاش من هذا التحليل القادم من مصر، التى رفضت الثورة الإيرانية واستقبل رئيسها السادات شاه إيران فى مصر بعد رفض أمريكا استقباله.

***
هذا هو السبب المعاصر لنهضة إيران، أما السبب التاريخى فيعود بنا إلى ثورة المختار، ففى عام 750م جاءت الخلافة العباسية على أنقاض الخلافة الأموية وذلك لأن العباسيين لم يكونوا عربًا عاربة (أصلاء) لكنهم كانوا من بلاد فارس، ومركزها خرسان، وكان المسلم الفارسى مواطن من الدرجة الثانية فى خلافة الدولة الأموية لأن العربى المسلم كان مواطنًا من الدرجة الأولى، فقام المسلمون الفرس بثورة ضد المسلمين العرب. وفى الحرب التى قامت بينهم كانت الشعارات التى تُرفع من المسلمين العرب: «أيها السادة أدبوا عبيدكم«، ومن الناحية الأخرى: «أيها العبيد ثوروا لكرامتكم«. وبانتصارهم فى الحرب وصلوا للخلافة ونقلوا مركز الخلافة إلى بغداد بدلًا من دمشق، ولقد أقام العباسيون حضارة إسلامية عالمية من خلال ترجمة الكتب الفلسفية والعلمية فى عهد الخليفة المأمون، الذى كان يكافئ المترجم بكيس مملؤًا ذهبًا بمقدار ثقل وزن الكتاب الذى ترجمه إلى العربية. وهكذا ترجموا كتب الإلهيات والطب وفروعه والطبيعيات وكتب أفلاطون وأرسطو طاليس، وقد قام المسيحيون العرب بهذه الترجمات لأنهم كانوا يتقنون اللغة اليونانية مع العربية، ولم تحدث حضارة عربية عالمية فى التاريخ سوى فى العصر العباسى، كان بن رشد وبن حيان وغيرهما، ولقد استفادت أوروبا بكتب الفلاسفة العرب فى العصر العباسى، ونقلوها إلى أوروبا، وكانت أحد الأسباب الهامة لقيام ثورة الإصلاح الدينى فى أوروبا فى القرن السادس عشر الميلادى، ومع الأسف إنتكست الحضارة الإسلامية مع الخلافة العثمانية، واستمر الشيعة فى إيران.

وهكذا وصلت إيران إلى أن تكون ندًا للولايات المتحدة الأمريكية لسببين: الأول القدرة على الاستقلال فى القرار والثانى عدد أوراق اللعب التى يمكن أن تطرحها والتعامل معها وكيف تستخدمها للمناورة. ذلك فى الوقت الذى فيه وصلت الدول العربية إلى مؤتمر البحرين. وما أبعد الفارق عزيزى القارئ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved