تنهيدة لبنانية


ياسمين بستانى

آخر تحديث: الإثنين 28 يونيو 2021 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

يلازمنى منذ أشهر إحساس بأننى على وشك الاختناق، هذا عدا عن الأفكار السوداوية التى أحاول تبديدها بالانغماس فى العمل بما يفوق طاقتى أحيانا أو بممارسة السباحة أو ملاعبة أطفال عائلتى. حتى أننى ابتعدت عن متابعة الأخبار وعن التسكّع على وسائل التواصل الاجتماعى لكثرة ما تغص به من مآسٍ ونكبات. قلت لنفسى، غوصى يا فتاة فيما يُلهيك عمّا يدور حولك، ابتعدى عمّا ينغّص عليك حياتك. اعملى، العبى بالكلمات واستمتعى برصفها أمامك على الشاشة، كما كنت تفعلين دوما. تذكّرى أن العمل لطالما ساعدك على النهوض من أعمق كبواتك وأنه كان السبيل لخلاصك فى لحظات تعثرك. اعملى فالعمل عملة نادرة فى بلادك المنكوبة. غضّى الطرف عمّا ينهش ما تبقى من وطنك. احمدى الله أن لديك عملا وأنك قادرة على إعالة نفسك. لا مسئوليات لديك. لا أطفال تخافين عليهم من ألا تتمكنى من تأمين حليب أو دواء لهم. لستِ مريضة ولا دواء تخافين من انقطاعه.
•••
أمضيت شهرين تقريبا على هذا المنوال، أستيقظ صباحا، أذهب لممارسة الرياضة ومن ثم أبدأ فى العمل حتى منتصف الليل وهكذا دواليك. التزمت بنصائحى لنفسى. هربت أو حاولت الهروب. لكنّ محاولاتى باءت بالفشل. ازداد الإحساس بالاختناق بدل أن يخف. أصبحت أجد نفسى فجأة ودون سابق إنذار على وشك البكاء مرات متعددة فى النهار، حتى حين أكون فى المقهى أو فى النادى. تغافلنى الدموع على حين غرة وأجد صعوبة فى ردعها.
•••
فى خلال الأسبوع المنصرم، وبينما كنت أنتظر دورى لملء خزان سيارتى بالوقود ولم يتبقَ أمامى سوى بضع سيارات، وقع إشكال فى المحطة وعلا صراخ المتجمعّين والمنتظرين هناك. التفتُ يمنة ويسارا فى محاولة لإيجاد وسيلة للهروب ولم أجد أفضل من خفض رأسى تحت مقود السيارة هربا من رصاصة طائشة قد تنطلق على حين غفلة بالقرب منى. لحسن الحظ، لم يتطور الإشكال واختفى الصراخ... وانهمرت دموعى.. دموع فرح سوداوى بأننى نجوت هذه المرة، أو «زمطت»، العبارة الشهيرة التى نستخدمها هناك كلما نجونا من انفجار أو حادث مأساوى... ودموع قهر من النكبة التى نعيشها... دموع قهر كتلك التى أحبسها حين أتنقل فى مدينتى التى لم أعد أعرفها، أو حين تباغتنى نوافذ لم يقوَ أصحابها على إصلاحها بعد آخر نكبة عصفت بوطنى، أو حين أتصل لأحجز موعدا لدى طبيب تلو الآخر وأعرف أنهم تركوا البلاد، أو حين أدخل إلى صيدلية وأسأل عن دواء تلو الآخر ولا أجد أى منها، حتى أبسط المسكنات، أو حين أعلم بوفاة أم وبناتها الأربع فى حادث سير أثناء بحثهن عن وقود لسيارة تقلّهن إلى المطار لاستقبال رب العائلة العائد من مهجره القسرى، أو حين تردد والدتى التى ما عدت قادرة على زيارتها أسبوعيا على عادتى لعدم توفر الوقود والتى لطالما رفضت فكرة أن يهاجر أحد منا، «روحوا مطرح ما فى خير إلكم، المهم تكونوا مناح»....
•••
عندما خف ضغط عملى فى الأيام القليلة الماضية، قررت الخروج قليلا والترفيه عن نفسى. خرجت مع مجموعة من الأصدقاء... هالنى القهر والحزن المتدفق من أعين الحاضرين من مواطنى ومواطنات جمهوريتى المنكوبة. حزن وقهر بالغوا فى محاولة إخفائه بالرقص أو بإظهار بهجة مصطنعة. أنا التى كنت متحمسة للخروج وجدت نفسى على شفا الاختناق، حاولت مثلهم أن أتظاهر بالمرح وأن أتمايل مع الموسيقى، لكن لم أتمكن من غش المقربين بين الحضور. تذرّعت بألم فى المعدة وأننى سأخرج قليلا لأتنشق بعض الهواء وشرب الماء علّه يزول... تكرر ذلك فى كل مرة خرجت فيها..
•••
هربت ولم أفلِح. لم ينفعنى الانغماس فى العمل الذى أضحى يتطلب منى تركيزا أكبر، وازدادت هفواتى على نحوٍ اضطر معه أحيانا إلى الاعتذار أو التوقف عن متابعة مهامى. حتى الكتابة التى لطالما لجأت إليها منذ نعومة أظفارى لأفرغ قىء أفكارى حين تسودّ الدنيا أمامى، لم تعد متنفسى. أجد نفسى عاجزة عن كتابة جملة أو جملتين. أكتب لأحذف... كثيرة كانت فى الأشهر الأخيرة لحظات الانفعال الشديد التى كانت فى الماضى محرّضتى على الكتابة، لكن الكلمات كانت تعلق فى كل مرة عند أطراف أصابعى وأعجز عن نقلها على الشاشة أمامى.
•••
أعرف السبب، فأنا لا أريد أن أرى تلك الكلمات... وذلك الواقع الذى أهرب منه. عمّا أكتب؟ عن والداى العجوزين الذين يعيشان للمرة الثانية فى حياتهما اضمحلال قيمة مدخولهما... كانا سعيدين فى السنوات الأخيرة لأنهما تمكنّا من النهوض وتأمين مدخول يقيهما العوز فى تقاعدهما... عن صديقة وزميلة سابقة لم يعد لراتبها قيمة وعلق جنى عمر زوجها فى المصارف... عن جارى المعمارى العاطل عن العمل فى بلد لم يعد هناك فيه من ورشة بناء ولم يعد قادرا على إعالة عائلته... عن ابن صديقتى المراهق المتفوق الذى لن يجد جامعة يرتادها فى العام المقبل والذى حتى قد لا يجد ما يقله إلى المدينة لتقديم امتحانات الثانوية العامة... عن جدى الذى ندعو الله ألا تتدهور حالته الصحية لأن ما من مستشفى قد يستقبله... عن صديقتى الطبيبة التى تسعى بشتى السبل إلى إيجاد عمل فى الخارج لتحزم حقائبها مجددا مع أطفالها الثلاثة من وطن حطّت فيه رحالها بعد تنقلها بين مهاجِر متعددة... عن عامل تعرض لحادث واعتذروا فى طوارئ المستشفى عن مداواة كسر يده لأن ليس لديهم معدات... عن شاب نزف حتى الموت ليس لقلة المتبرعين له بالدم بل لعدم توافر القوارير اللازمة لنقل دم إلى جسده...
قهر ما بعده قهر... وليس فى بلادى من يبالى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved