خواطر شخصية جدًا.. حول داعش

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الثلاثاء 28 يوليه 2015 - 7:05 ص بتوقيت القاهرة

قررت أن أغامر فأكتب خواطرى الشخصية جدا حول تلك الظاهرة الفظيعة المسماة «داعش». إذ ما جدوى الاشتراك فى ذلك الصخب الهائل من الكتابات والتعليقات على هذه الظاهرة، والذى يثير الأسى والفزع فى نفوسنا كل صباح، دون أن يترتب عليه أى أثر فى القضاء على هذه الظاهرة أو وقف نموها وانتشارها، بل ولا يساهم حتى فى فهمها؟

لابد أن فى الأمر أكذوبة كبرى. كان هذا هو خاطرى الأول. إننى لا أقصد أن أعمال القتل الوحشى والتدمير الجنونى للآثار التاريخية، وتخريب المدن والقرى، وتشريد مئات الألوف من الأبرياء، لم تحدث بالفعل، بل أقصد أن الدوافع التى يزعم أنها وراء ارتكاب هذه الأعمال لا يمكن أن تكون هى الدوافع الحقيقية، وأن تزايد أعداد الآتين للانضمام لهذه الحركة، من مختلف البلاد، غنية وفقيرة، لا يعود إلى مجرد الاقتناع بأفكارها، أو بقوة الحمية الدينية، أو بالحماس لإقامة شىء اسمه «الخلافة الإسلامية».

أقول لنفسى إن كل هذه المزاعم لا يمكن أن يقبلها العقل. إذ ما هى هذه «الخلافة الإسلامية» بالضبط التى يراد إقامتها؟ ما هو شكلها ومبادئها التى يمكن أن تتعايش مع العالم الحديث، والتى يمكن أن تتركها الدول المحيطة بها (وغير المؤمنة بها) لحالها، فى عصر يسمى «عصر العولمة»، ولا يمكن أن يتصور فيه قيام جسم غريب لا يقبل التعاون مع من حوله إلا إذا اعتنق عقيدته؟ وما هى يا ترى التغيرات التى سوف يدخلها أصحاب هذه الفكرة (فكرة الخلافة) على تجارب الخلافة الإسلامية طوال الأربعة عشر قرنا الماضية، لتكون الخلافة الجديدة مسايرة لحاجات الناس فى العالم المعاصر، المادية والفكرية والروحية؟

فإذا كان هؤلاء العاملون على إقامة هذه الخلافة قد قرروا مخاصمة العالم الحديث مخاصمة تامة، سواء فيما يتعلق بمركز المرأة مثلا، أو بالتنظيم الاقتصادى أو التشريع الجنائى...إلخ، فلماذا يا ترى نسمع عن أن هؤلاء الناس أنفسهم يستخدمون أسلحة حديثة ومتطورة جدا، من إنتاج هذا العالم الحديث، ويمولون عملياتهم الحربية عن طريق السحب من بنوك تطبق أحدث النظم المصرفية، ويعتمدون اعتمادا كبيرا فى إثارة مشاعر الناس، سواء بغرض تعبئة منضمين جدد، أو تخويف من لا يتفق معهم، على أحدث أساليب الدعاية والإعلام، بل يكاد أن يكون من غير المتصور أن تستمر هذه الحركة فى ارتكاب جرائمها لولا استمرار نشر أخبار وصور هذه الجرائم على أوسع نطاق فى وسائل الإعلام.

ثم أسأل نفسى: هل أنا وحدى الذى لا يكاد يعرف شيئا عن مبتدعى هذه الحركة وزعمائها؟ نعم، هناك اسم أو اسمان مرا عفوا على سمعى، ولم أحاول الاحتفاظ بأى منهما فى ذاكرتى لاعتقادى الراسخ بعدم أهميتهما، إذ لم أصادف اقتران أى اسم منهما بأى مشروع مفصل أو مجمل، لما ينوى عمله، أو بأى شرح للمقصود من هذه الخلافة المرجوة. فهل يا ترى رأى غيرى مثل هذا المشروع؟ ولماذا يا ترى لم يحاول أحد من هؤلاء الدعاة نشر أفكارهم العبقرية على أوسع نطاق مثلما فعلوا فى نشر صور جرائمهم وضحاياهم؟

خطر لى أيضا التساؤل عن سبب غرابة هذا الاسم (داعش) وإطلاقه على حركة تصف نفسها بالإسلامية، وبدأت فى بلاد عريقة فى عروبتها وحسن استخدامها للغة العربية. إن العرب لم يبتدعوا، فيما أظن، عادة استخدام الحروف الأولى، بل مازالت هذه العادة تبدو غريبة على الأذن العربية التى تجيد التمييز بين الوقع الحسن للألفاظ وبين الوقع الخشن والغليظ مثلما نجد فى لفظ (داعش). (بل يخيل لى أحيانا أن استخدام اسم «داعش»، للإشارة إلى حركة تهدف إلى إقامة الخلافة الإسلامية، يشبه ترك المجرم سهوا أثرا من آثاره فى مسرح الجريمة، وينسى أن يمحوه، ويؤدى ذلك إلى اكتشاف أمره).

خطر لى أيضا السؤال التالى: لماذا تزامن ظهور حركة لإقامة الخلافة الإسلامية فى العراق وسوريا، ثم امتداد أفعالها وجرائهما إلى بلاد أخرى، مع قيام حركات «الربيع العربى»؟ («والربيع العربى»، بالمناسبة هو بدوره اسم أطلقه الأجانب على ما حدث عندنا ولم نطلقه نحن، سواء عندما كان كالربيع حقا أو عندما تحول إلى خريف أو شتاء). هل وجد دعاة (داعش) الوقت ملائما تماما لتحقيق مبادئهم، وأن الناس أصبحوا أكثر استعدادا لقبول دعوتهم بعد ثورات الربيع العربى مما كانوا قبلها؟ لا يمكن قبول هذه الفكرة أيضا، إذ إن ثورات الربيع العربى قد تطورت إلى حدوث فوضى فى بلد عربى بعد آخر. فهل تناسب هذه الفوضى قيام دعوة جديدة للخلافة الإسلامية تتوحد بها الدول، أم هى أنسب لتجزئة هذه الدول إلى دويلات أصغر؟

قلت لنفسى أيضا: لقد مضى على سماعنا بحركة داعش عدة سنوات، فلماذا لم نسمع خلال هذه السنوات عن شىء طيب واحد قاموا به؟ إننا لم نسمع إلا عن جرائم وفظائع من قتل وتدمير وتشريد وانتهاك أعراض. فهل يمكن يا ترى أن يوجد فى القرن الواحد والعشرين أحد يفهم أهداف الخلافة الإسلامية، على هذا النحو البائس؟

ولماذا يا ترى نجد أن جميع ضحايا داعش من الأبرياء الذين لم يرتكبوا جرما، ولم يعرف عنهم العداء للإسلام، سواء كانوا ضباطا فى جيش، أو أقباطا هاجروا من بلادهم للبحث عن الرزق فى بلد آخر، أو نساء أو أطفالا لم يعرف عنهم الاشتغال بالسياسة، أو آثارا تاريخية عظيمة اتفق عقلاء المسلمين على أن المحافظة عليها لا تتعارض مع مبادئ الإسلام؟ والجرائم التى ارتكبتها داعش ضد الأبرياء لم تحدث عن طريق الخطأ أو كأثر عارض لهجوم على أشخاص عرف عنهم أنهم يحملون مشاعر عدائية ضد المسلمين، أو ينتمون لدول اتخذت حكوماتها مواقف عدائية ضد بعض المسلمين، كالذى فعلته إسرائيل مثلا مع الفلسطينيين، أوالأمريكيون مع العراقيين، أو الروس مع الشيشان...إلخ. لماذا الأبرياء دائما هم وحدهم الهدف والضحية؟

إن لدىّ تساؤلات أخرى كثيرة عن نفس الظاهرة، مما يحتاج إلى عدة مقالات. وقد يتفق معى القارئ فى بعضها دون غيرها، وقد يرفضها كلها. ولكننى أردت فقط أن أعبر عما يدور بخاطرى مهما بدا لا عقلانيا فى نظر البعض، إذ قلت لنفسى أيضا إنه لا ضرر فى أن يصدق المرء مع نفسه، وألا يقنع بترديد ما يقوله كثيرون غيره.

كان من نتائج هذه الخواطر التى تمر بذهنى بشأن داعش وأمثالها، أننى لم أعد أتابع تفاصيل ما ينشر عن أخبارها، وأقلب الصفحة بسرعة إذا شعرت بأن الجريدة تنشر صورا لضحاياها، أو للآثار التى دمرتها، إلى جانب ذكر عدد القتلى والضحايا. لم أعد بصراحة أجد أى فائدة فى متابعة هذه الأخبار، لما أصبحت أشعر به من أنها كلها قائمة على أكذوبة كبرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved