دور الأثرياء فى عمران القاهرة الحديثة

وائل زكى
وائل زكى

آخر تحديث: الثلاثاء 28 يوليه 2020 - 8:00 م بتوقيت القاهرة


هكذا ينحسر فيضان عام 1830م مخلفا وراءه طرحا جديدا لأرض المحروسة، شريطا يبدأ من شمال كوبرى إمبابة وينتهى قبل فم ترعة الإسماعيلية، وهو ما عليه حاليا مجموعة مولات تجارية وفنادق وتنتهى بأبراج سكنية، ظهر ذلك الشريط غرب جزيرة الفيل التى يقع عليها معظم حى شبرا مصر، وكان ذلك آخر طرح لنهر النيل وصار منذ ذلك العام على نفس مجراه الحالى، ولم يطرح النهر من قاعه أرضا ناحية الجيزة بل أهدى من مجراه أراضى لمصر المحروسة على ضفته الشرقية، وكانت المحروسة فى ذاك الوقت قد استقرت تحت حكم الوالى محمد على المولود فى مدينة كافالا (قولة) ميناء مقدونيا اليونانية، وهى ذات المقاطعة التى كان يحكمها فيليب المقدونى أبو الاسكندر الأكبر، كانت كافالا خاضعة للحكم العثمانى وبعد قضاء محمد على فترة فى الجيش تركه وعمل تاجرا للدخان فى تلك المدينة التى يعد متحف التوباكو (التبغ) أحد معالمها ومزاراتها، كان محمد على تاجرا خبيرا فى المال والتجارة ماهرا فى عقد صفقاتها، عاد إلى الجيش فى سن الحادية والثلاثين حينما فتح باب الانضمام لصفوفه لدعم القوات فى مناطق القلاقل، ووصل مصر على رأس فرقة من الجند الألبان المعروفين بالأرناؤوط، ما لبث خلال عام أن صار مقدما بالجيش قائدا لفرقة الأرناؤوط وتولى الحكم عام 1805م بفكر التاجر الاقتصادى وود اليونانى وحزم العسكرى وحراسة فرقته من الألبان الأرناؤوط الذى يقال أن عائلته تنتمى فى أصلها إليهم.
***
سيلحظ المتابع لتاريخ عمران المحروسة أن ما قام به الفرنسيون فى أشهر قليلة من تسجيل ثقافى وتراثى فى مصر قد فاق قدره ولكن سلبا ما أحدثوه من تخريب عمرانى فى القاهرة وبقاع شتى فى أرجاء المحروسة، فقد كانت مدافعهم تتمركز فيما هو حاليا شارعى الجمهورية وكلوت بك يدكون بها غرب القاهرة الفاطمية بالقنابل وقد هدموا معظم معالمها المطلة على شارع الخليج المصرى (بورسعيد حاليا)، وتضررت بشكل كبير مبانى الأزبكية ومحيطها، وبعد خروج الفرنسيين بدأ الأهالى حركة إعادة تعمير، وأخذ كثير من أثرياء تلك المناطق فى التخلى عن سكناها والتوجه نحو جزيرة الفيل شمال غرب القاهرة، كان ذلك الحراك يسير على وتيرة بطيئة ثم تسارعت حين داهم وباء الطاعون مصر، وفرض محمد على عام 1834م حجرا صحيا بحريا على السفن التركية، وكانت الإجراءات الاحترازية غاية فى الصرامة وعقاب المخالفين للدرجة التى بدأت بعض الأسر بحفر مقابر لموتاهم فى ساحات دورهم حتى يتجنبون العقاب، وتشير بعض المصادر أن عام 1837م شهد وفاة ما يقارب 75 ألف شخص فى القاهرة وحدها، وأصبح ترك المناطق كثيفة السكان والتجارية والحرفية والبعد عن المناطق ذات التربة الرطبة والبرك والمستنقعات هاجس الأثرياء الذين زادوا من وتيرة الزحف نحو المناطق الشمالية الحديثة خاصة شبرا حيث بدأ العمران يدب فيها بقصور ومساكن فسيحة ومتباعدة حتى أنشأ محمد على شارع شبرا فامتد العمران على جانبيه وأصبح أعرض طريق فى القاهرة وأكثرها استقامة فى تخطيطه وكثرت به المنتزهات والمبانى المميزة.
وإضافة لما يحيط حكم عباس حلمى الأول ما بين 1848 إلى 1854م من لغط حول سياساته وعلاقاته بأبناء الأسرة الحاكمة فقد بنى قصرين منيفين شاسعا المساحات أحدهما بمنطقة الحصوة بصحراء الريدانية وبنى فيها سرايا صفراء اللون هى سرايا العباسية شملت حديقتها المساحة الممتدة حاليا من قصره الشهير بالسرايا الصفراء حتى جامعة عين شمس وما بينهما، والسرايا الأخرى هى سرايا الحلمية التى امتدت على مساحة كبيرة من أملاك المماليك الذين قضى عليهم جَده محمد على وأهم تلك الأملاك أرض قوسون التى على حواف وجزء كبير من بركة الفيل، وكانت البركة ممتدة من بيوت الفيلة التى بناها خمارويه جنوبا حتى شارع القلعة الحالى شمالا، تلكما السرايتين كانتا أساسا لحيين مهمين فيما بعد هما حى العباسية وحى الحلمية، وأميل إلى أن الحيين عمرا بتشجيع الحكام التاليين لعباس حلمى الذى لم يكن يسعى لتعمير تلك المناطق قدر ما سعى لبناء قصور له فى مناطق مميزة وهادئة ونائية كما فى بنها والريدانية وأرض قوسون.
ويبدو أنه كان متعمدا من أولى الأمر فتح مساحات سرايتى العباسية والحلمية بعد مقتل عباس حلمى الأول كى تقسم أراضيهما وتشجيع علية القوم وأثريائها على سكنى العباسية والحلمية لتعج فى وقت قصير بالقصور والمساكن الفاخرة، وبدى المزاج العمرانى للأثرياء تتضح معالمه فى مدى إقبال أى منهم على سكنى الحلمية التى أقيمت وسط المحروسة بعبقها التراثى التليد أو سكن العباسية ذات الامتداد الحديث نحو الصحراء متجاوزا آخر الامتدادات التلقائية التى كانت شمال القاهرة حتى محيط منطقة الظاهر بيبرس ومسجده، وصارت العباسية بتخطيط شوارع عريضة وأكثر استقامة فى حين بدأ فى الحلمية نسج عمرانى جاء ما بين أحيائها التقليدية وعلى فترة من انقطاع عمرانى وفتور معمارى فصارت أيضا قبلة الراغبين فى الترقى الاجتماعى من المحيط الشعبى للحى، كما تبدو فى ذات الفترة ملامح لحراك عمرانى جديد للطبقة المتوسطة العليا فى اتجاه شبرا ومحيط بركة الناصرية جنوبا التى حفرها الناصر محمد بن قلاوون وصار محيطها أحكارا، ولتلك المنطقة قصصا تحكى عن سطوة حديثى الثراء وأمراء الجند المماليك عند نشأتها حين يغض الطرف عن أفعالهم تماشيا مع هوى الحاكم، وينتهى القرن التاسع عشر وقد كادت تختفى بركة الناصرية والفيل والحاجب التى عرفت بالرطلى وكانت فيما مضى تعج بمراكب الترفيه وفنون الملاهى الليلية.
***
وكما كان بناء سور مجرى العيون بداية لعصر عمرانى أسس فى الواقع كيانا اسمه مصر المحروسة، كان لانتقال مقر الحكم من قصر الجوهرة بقلعة الجبل إلى قصر عابدين إيذانا ببدء عصر عمرانى حديث، افتتح القصر رسميا عام 1874م فى عهد الخديوى إسماعيل الذى عُزل عن حكم مصر عام 1879م، وخلال فترة حكمه التى دامت ست عشرة سنة لم يتوان يوما عن تحقيق حلمه فى إنشاء عاصمة تضارع أفخم ما رأى فى عواصم أوروبا التى تربى ونشأ فيها، فكلف عام 1867م جورج هاوسمَن وهو محافظ منطقة نهر السين وقام بتخطيط باريس وأقيل من عمله عام 1870 بسبب فداحة التكاليف وهدم آلاف المبانى ومع ذلك تم تنفيذ تخطيطه الحديث لباريس لإن المبانى بالفعل هدمت ولم يكن بالإمكان سوى إعادة البناء طبقا لمخططه، ولكنه وجد فى ذلك البراح المتسع بالقاهرة متنفسا لرؤيته وبدأ من تخطيط حديقة الأزبكية شرقا حتى ضفاف نهر النيل، وأطلق على المنطقة حى الإسماعيلية الذى صار اليوم وسط البلد بالقاهرة وينتهى بميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) وأنشىءمن جهته الغربية كوبرى قصر النيل بأسوده الأربعة وطرازه الوقور ليربط القاهرة بالجيزة، وعرض إسماعيل أراضى الحى على المقتدرين من المواطنين فيتم تخصيص قطعة أرض على أن يتم بناؤها خلال مدة محددة وإلا سحب منه تخصيصها، فاتجه أثرياء القاهرة لتعمير وسكنى حى الإسماعيلية كما باع من لم تكفه ملاءته النقدية أملاكا له فى الأحياء التقليدية واتجه للبناء فى الحى الجديد المخطط الراقى ذى الشوارع المضاءة والميادين المزدانة والأرصفة والطرق النظيفة.
ومن أهم الصور العمرانية فى ذاك العهد هو لفت اهتمام الأثرياء للضواحى العمرانية مثل حلوان التى أعيد الاهتمام بها كضاحية سكنية وتم ربطها بوابور نهرى ثم بخط حديدى عرف فيما بعد بخط المحاجر، ربط هذا الخط بين ميدان الرميلة عند القلعة وحلوان مرورا بمناطق البساتين والمعادى وطرة، وبذلك انفتح عمران القاهرة وخرجت عن حيز الأحياء التقليدية التاريخية إلى الجيزة وكورنيش النيل ومحيط قصر العينى والروضة، وكانت المناطق الناشئة حديثا من نصيب العائلة المالكة وعائلات الصفوة من أثرياء المجتمع، وينتهى القرن التاسع عشر مع بدايات عمران المناطق المعروفة حاليا بالزمالك والجيزة والدقى والعجوزة وشارع الهرم، وكان أهم ما يتصف به ذلك المد العمرانى هو ما يصاحبه من حراك يتمثل فى الإحلال الجارى بين طبقة الأثرياء القادرة على الاستجابة لتشجيع الدولة للتوجه نحو الامتدادات الجديدة والطبقة المتوسطة التى تحل محلها سواء بالشراء أو الإيجار من المالك أو إدارة الوقف الذى كان ظاهرة منتشرة كشكل من أشكال التكافل يقوم به الأثرياء طلبا للثواب ومشاركة فى سد احتياجات الناس، فكانت المبادأة من الدولة ثم المبادرة من الأثرياء فيتحركون بوازع الرغبة الشخصية ويتوجهون نحو ما تهيئه الدولة من مناطق مد جديدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved