القرض الحائر لصندوق النقد الدولى

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 28 أغسطس 2012 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

الحائر بالطبع ليس القرض وإنما الحكومة المصرية والرأى العام وفى الغالب السيدة/ كريستين لاجارد رئيسة صندوق النقد الدولى. سبب الحيرة أن الحكومات المصرية المتعاقبة منذ الثورة طلبت أكثر من مرة الاقتراض من البنك الدولى ثم من صندوق النقد ثم تراجعت فى كل مرة. واستمرت هذه الملحمة لأكثر من عام ونصف، فتعاقب عليها حكومة د. عصام شرف ثم حكومة د. الجنزورى، وتابع الملف ثلاثة وزراء مالية (د. سمير رضوان ود. حازم الببلاوى وأ. ممتاز السعيد)، وانعقد مجلس الشعب وناقش الموضوع فى جلسات واجتماعات حتى صدر حكم بحلِّه، وجاءت وفود من المؤسستين الدوليتين وراحت، كل هذا والقرض الحائر يرتفع مبلغه وتسوء شروطه وتتزايد الحاجة إليه. الحيرة لها ما يبررها والاقتراض من صندوق النقد الدولى يثير دائما جدلا وخلافا شديدين. فهو تمويل يأتى عادة بشروط تجارية جيدة، ولكنه من جهة أخرى يزيد من حجم المديونية الخارجية لمصر كما أنه يعنى ــ ولو بشكل ضمنى ــ التزام الحكومة بتطبيق برامج تقشفية من أجل الحد من عجز الموازنة العامة بكل ما يحمله ذلك من عواقب على ذوى الدخول المحدودة.

 

ومع ذلك فإن قلة البدائل المتاحة فى الوقت الراهن هى ما دفعت حكومة د. هشام قنديل لحسم هذه الحيرة وتقديم طلب رسمى لاقتراض أربعة مليارات وثمانمائة مليون دولار من الصندوق لمواجهة الوضع الاقتصادى الصعب بعدما انخفض الاحتياطى النقدى إلى مستوى مقلق للغاية، وتراجعت التدفقات الواردة من الخارج إلى أدنى الحدود، وتبين أن المنح والاستثمارات العربية لن تأتى بسرعة، والأموال التى يتم ملاحقتها فى الخارج ليست سهلة المنال. القرار فى حد ذاته إذن ــ فى تقديرى الخاص ــ ليس خاطئا فى هذه اللحظة وفى هذه الظروف، ولكن الأسلوب والملابسات المحيطة به تثير العديد من التحفظات:

 

التحفظ الاول أن حكومة تأتى بعد ثورة شعبية وانتخابات حرة كان يجب عليها أن تكون أكثر شفافية وصراحة فى التعامل مع الموضوع وأن تحرص على تجنب الغموض خاصة حينما يتعلق الأمر بموضوع بهذه الأهمية. هناك أسئلة عديدة لا تزال بلا إجابة واضحة: لماذا ارتفع مبلغ القرض من ثلاثة مليارات دولار أمريكى (طلبتها حكومة د. الجنزورى) إلى ما يقرب من خمسة مليارات فى غضون أسابيع قليلة؟ وما هى الاستخدامات المتوقعة لهذا القرض؟ وكيف سيتم سداده فى المستقبل بعد انتهاء فترة السماح؟ وطبعا السؤال الأهم، ما هى الشروط الرسمية أو حتى الضمنية المرتبطة به؟ وأخيرا ما هو برنامج الحكومة فى التعامل مع الاقتراض الخارجى بشكل عام خلال الفترة القادمة حتى لا نجد أنفسنا مدفوعين لمزيد من الاقتراض فى المستقبل. هذه أسئلة مشروعة لدى الرأى العام، وعلى الحكومة أن تجيب عنها بصراحة ووضوح قبل إبرام القرض بشكل نهائى (وهو بالمناسبة لن يحدث قبل نهاية العام لأن لصندوق النقد إجراءات داخلية للموافقة تستغرق عدة أشهر).

 

التحفظ الثانى أن هناك قدرا من التناقض فى المواقف يجب تبريره أو على الأقل الاعتراف به. فقد سبق لحزب الحرية والعدالة الاعتراض على القرض وقت حكومة د. عصام شرف ثم حكومة د. الجنزورى، وكان ذلك استنادا إلى رفض مبدأ زيادة الدين الخارجى، ورفض الشروط التى تأتى مصاحبة للقرض، ورفض الفائدة الربوية المرتبطة به. ثم إذا بكل هذه الاعتراضات تتلاشى مرة واحدة. ألا يتطلب ذلك شرحا أو اعترافا على الأقل بالتغيير فى الموقف؟ ومع ذلك فلعل فى هذا درس ليس لحزب الحرية والعدالة وحده ولكن لكافة القوى السياسية ولمرشحى الرئاسة وللأحزاب المعارضة، أن يحذروا وقوع مفاجأة يوما ما تدفع بهم لموقع السلطة فتلاحقهم الوعود والمواقف التى أطلقوها من موقع المعارضة وهم يعلمون استحالة تطبيقها.

 

أما التحفظ الثالث فهو أنه فى محاولة لتبرير القرض، اتجهت الحكومة إلى المبالغة الشديدة فى تصوير مزايا الاقتراض من صندوق النقد الدولى وفى إنكار الشروط المرتبطة به. فالقول بأن مجرد الاتفاق مع الصندوق سوف يفتح على مصر نهرا من التدفقات المالية الواردة من الخارج قول غير صحيح. كل ما هنالك أن الاقتراض من الصندوق يشير إلى التزام الحكومة بإعادة التوازن للاقتصاد، الأمر الذى قد يشجع المستثمرين على العودة للسوق المصرية، ولكن لا شىء مضمون. كذلك فإن القول بأن الاقتراض من الخارج لا ينطوى على أية شروط أيضا ليس صحيحا. فالنظام الأساسى لصندوق النقد الدولى ــ والمنشور على موقعه على الإنترنت لمن يرغب فى الاطلاع عليه ــ يوضح أن القروض المقدمة من الصندوق لا تكون «لوجه الله» وإنما يلزم أن تكون فى إطار دعم سياسات حكومية تتضمن على وجه الخصوص الحد من عجز الموازنة وميزان المدفوعات، ودفع النمو الاقتصادى، وإزالة العوائق من أمام القطاع الخاص، والحد من القيود على تحركات رءوس الأموال واستثمارها. هذا أمر معروف ولا داع لإنكاره. والسيدة/ كرسيتين لاجارد أعلنت فى ختام زيارتها أن فريقا من خبراء الصندوق سوف يكون فى مصر مطلع شهر سبتمبر لتقديم العون اللازم من أجل التوصل إلى إبرام القرض. صحيح أن تغيرا كبيرا حدث خلال العقدين الماضيين فيما يسمى بـ«المشروطية» المرتبطة بقروض الصندوق والبنك الدوليين، إذ بينما كانت القروض المقدمة منهما فى الماضى ترتبط بإجراءات محددة فإنها صارت الآن مربوطة بتحقيق نتائج معينة وليس اتخاذ إجراءات، ولكن النتيجة تظل واحدة، وهى أن القرض يأتى مرتبطا بالتزام رسمى أو ضمنى من الحكومة المقترضة بتطبيق برنامج اقتصادى يحقق أهدافا معينة، ولذلك فلا داعى للمبالغة فى إنكار أن للقرض شروطا وضوابط وبرنامجا.

 

وهنا نأتى لمربط الفرس، فالقضية ليست فقط ما إذا كان البرنامج الاقتصادى المصاحب للقرض مدفوعا ومفروضا من الصندوق أم من بنات أفكار الحكومة المصرية والبنك المركزى المصرى والخبراء المصريين، وإنما الأهم من ذلك هو ما يتضمنه هذا البرنامج من سياسات وإجراءات وقوانين وغيرها، وما يمثله من موقف فكرى، وما يعبر عنه من انحياز اجتماعى. بمعنى آخر فإن إعادة التوازن للاقتصاد المصرى يجب أن يكون مطلبا مصريا قبل أن يكون فرضا علينا من الخارج، ولكن المهم هو من يدفع الثمن ومن يستفيد؟ ولذلك انتهى بما بدأت به. الاقتراض هذه المرة قد يكون شرا لابد منه نظرا لقلة البدائل المتاحة. ولكن يلزم أن يكون ذلك فى إطار من الشفافية الأكبر، وأن يكون فى أضيق الحدود الممكنة، وأن يقترن ببرنامج حكومى معلن ومعروف للناس ويحظى بالقبول العام والتوافق السياسى لأن ما تقترضه الحكومة يصبح عبئا واجب السداد على كل مواطن. والفرصة لا تزال متاحة لكل ذلك قبل التوقيع النهائى على القرض.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved