لماذا تقدمت كوريا الجنوبية وتراجعت مصر؟

علاء الحديدي
علاء الحديدي

آخر تحديث: الإثنين 28 أغسطس 2017 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

أتابع مثل غيرى الوضع الاقتصادى فى مصر، والجدل الدائر حول الاحتياطى النقدى وانخفاض العجز التجارى، وهو ما استدعى لدى ذكريات زيارتى الوحيدة لكوريا الجنوبية، والدروس والملاحظات التى خرجت بها. كانت تلك الزيارة فى عام ١٩٩٦ بدعوة من الحكومة الكورية الجنوبية للدارسين الدبلوماسيين الأجانب فى مركز الدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد الأمريكية وقتذاك، وكانت فى إطار حملة دعائية تقوم بها الحكومة فى كوريا الجنوبية للترويج لنفسها وفى إطار الصراع القائم بينها وبين كوريا الشمالية. وقد خرجت من تلك الزيارة ببعض الدروس والملاحظات التى ظلت حاضرة فى ذهنى حتى الآن. وهى الملاحظات التى أرى أنه يمكن الاستفادة منها فى فهم أسباب تقدم كوريا الجنوبية من أحد أفقر دول العالم فى بداية الستينيات بمتوسط دخل فرد يبلغ ٦٩ دولارا فى العام إلى متوسط دخل فرد يبلغ ٣٦.٦٠٠ دولار فى العام الآن، وسادس أكبر مصدر للسلع والمنتجات على مستوى العالم. كما ينتظر أن يقفز اقتصادها من المركز الحادى عشر على مستوى العالم حاليا (١.٤ تريليون دولار) إلى أن يكون أحد الاقتصادات العشرة التى ستهيمن على العالم مع منتصف القرن الحالى. وإذا أضفنا أن كوريا الجنوبية خرجت من الحرب مع جارتها فى الشمال (١٩٥٠ ــ ١٩٥٣) بلا بنية تحتية أو مرافق، ولا تتمتع بأية موارد طبيعية وتعانى من مشكلة زيادة سكانية على مساحة محدودة من الأرض، (نحو نصف عدد سكان مصر على عشر المساحة)، فلنا أن نتساءل كيف تقدمت كوريا وحققت هذه الطفرة الاقتصادية خلال جيل واحد فقط.

كانت كل هذه الأسئلة فى ذهنى عندما ذهبت إلى سول، وكان أول ما أثار انتباهى منذ البداية، هو وحدة الخطاب الاقتصادى لكل من قابلناهم. كانت مدة الزيارة نحو أسبوع، بمتوسط أربع أو خمسة لقاءات فى اليوم الواحد، ما بين دوائر حكومية مختلفة إلى شركات كبيرة وصغيرة من القطاع الخاص، إلى مشروعات صناعية وتجارية ومراكز فكر وبحث علمى مستقلة أو فى الجامعات، فضلا عن العديد من الحوارات وحلقات النقاش مع أساتذة ومسئولين وخبراء ومدراء فى مختلف دوائر صنع القرار أو خارجه، وأيا كان المكان أو المتحدث، فقد كانت الرسالة واحدة؛ الهدف هو مضاعفة الدخل القومى خلال عشر سنوات. كأن الجميع فى كورس فرقة واحدة يغنون نفس اللحن والأغنية. كان هناك هدف واحد يسعى إليه الجميع، والأهم من ذلك أن الكل كان يؤمن به. 

يرتبط بما تقدم الدرس الثانى من هذه الزيارة وكان نتيجة حوار جانبى دار بينى وبين نائب وزير الخارجية آنذاك خلال مأدبة العشاء التى نظمتها وزارة الخارجية لنا، وكان سفيرا سابقا لبلاده فى القاهرة. وهو ما انتهزت معه الفرصة لمعرفة تقييمه لتجربته فى القاهرة وأهم الفروق بين التجربتين المصرية والكورية. وطبعا بما هو معروف عن أى دبلوماسى مخضرم فقد أشاد بفترة عمله بالقاهرة ومختلف الوزراء والمسئولين الذين تعامل معهم، ثم ذكر فى معرض حديثه عن التجربة الكورية أن أهم ما يميزها هو روح الفريق الواحد الذى يتميز به أداء الحكومة، وقدرتهم على التعاون والتنسيق فيما بينهم، فى إشارة واضحة إلى تجربته السابقة بمصر دون أن يسميها صراحة، وكانت الرسالة واضحة بما يكفى والإجابة التى أبحث عنها للرد على سؤالى.

إلا أن المحصلة الرئيسية التى خرجت بها من هذه الزيارة كانت حول النهج الذى اتبعته الحكومة من أجل تشجيع قطاع الصناعة ومساعدته على النمو. فقد تم ذلك من خلال تقديم مجموعة من الحوافز لرجال الأعمال للاستثمار فى صناعات معينة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة؛ منها السيارات والإلكترونيات والسفن ضمن صناعات أخرى لا أتذكرها الآن. الفكرة أن الحكومة قررت التركيز على عدد معين من الصناعات وقع الاختيار عليها بعد إجراء الدراسات المطلوبة، وخلصت إلى ضرورة عدم إهدار الموارد فى صناعات أو مشاريع أخرى لا جدوى اقتصادية منها. وعليه قدمت الحكومة عدة حوافز للقطاع الخاص فى شكل قروض ميسرة للغاية، وفوائد متدنية تكاد تكون رمزية من البنوك الحكومية، وإعفاءات وتخفيضات ضريبية ملموسة، وطرح أراض لبناء مصانع عليها بأسعار رمزية، والعمل على فتح أسواق خارجية لهذه المنتجات تحديدا، وغيرها من الإجراءات والقرارات التى تهدف إلى تشجيع هذه الصناعات وتطويرها وحتى تستطيع أن تقف على قدميها والمنافسة فى السوق الدولية. ولكن الجانب الآخر من العملة كما يقال كان السياسات السلبية التى اتبعتها الحكومة إزاء الصناعات الأخرى وحتى يعزف رجال الأعمال عن الاستثمار فيها ويتم توجيه رءوس الأموال إلى الوجهة الصحيحة. فقد ارتفعت الضرائب على الصناعات والأنشطة الصناعية والتجارية الأخرى، فضلا عن تعقيد الحصول على الموافقات المطلوبة من أجل بدء الإنشاء والعمل فى هذه الأنشطة غير المطلوبة مع وقف منح القروض والتسهيلات من البنوك الحكومية لهذه الأنشطة أو المشاريع، ناهيك عن صعوبة الحصول على أراضٍ للاستثمار خارج القطاعات أو الأنشطة التى حددتها الحكومة. بعبارة أكثر وضوحا تقديم جميع التسهيلات لكل من يرغب فى الاستثمار فى الخمس أو ست مجالات التى حددتها الحكومة ووضع العراقيل والعوائق أمام كل من يريد الاستثمار خارج هذه المجالات. النتيجة أن رأس المال توجه إلى هذه الصناعات المحددة سلفا وأصبحت كوريا الجنوبية اليوم من أكبر منتجى الإلكترونيات والسفن والسيارات فى العالم، ويحقق الميزان التجارى لديها فائضا ضخما كل عام. 

أتذكر بعد عودتى للقاهرة واستئنافى للعمل بوزارة الخارجية أنه كان ضمن مهامى التنسيق مع فريق أجنبى لإخراج فيلم دعائى للترويج للاستثمار فى مصر ليتم بثه فى القنوات التلفزيونية العالمية. وتم ترتيب مقابلة لهذا الفريق مع أحد وزراء المجموعة الاقتصادية للتعرف منه على القطاعات التى ترغب الحكومة فى التركيز عليها حتى يخرج الفيلم برسالة واضحة تعبر عن أهداف الحكومة وأولوياتها. إلا أن الوزير طلب منهم الحديث عن كل القطاعات ولم يحدد قطاعا أو مجموعة صناعات بعينها. وهو ما تذكرت معه زيارتى السابقة لكوريا الجنوبية والفرق بيننا وبينهم.

ورغم مرور كل هذه السنوات، ما زال حديث نائب وزير الخارجية الكورى هذا عن روح الفريق الواحد يدور فى ذهنى حتى اللحظة، خاصة مع ما يتواتر من أقاويل وأحاديث عن خلافات داخلية وافتقاد روح الفريق الواحد، ناهيك عن رؤية اقتصادية واحدة يلتزم بها الجميع فى خطاب اقتصادى واحد يتم بمقتضاه تحديد قطاعات أو صناعات معينة يتم التركيز عليها. فالعبرة هنا ليست فى كثرة المشروعات أو عددها أو حجمها، ولكن فى حسن اختيارها وكفاءة إدارتها. فالمشكلة أو المعضلة الاقتصادية التى تواجه مصر ليست فى قلة الموارد أو نقصها، ولكن فى أسلوب إدارتها وكفاءتها.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved