حدود الأدوار تُرسم بالنار

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الأربعاء 28 أغسطس 2019 - 12:00 ص بتوقيت القاهرة

فى الأسابيع الماضية، انشغل العالم بمتابعة يقظة الشياطين فى معقل الهدير الآسيوى. فى العالم الواقع فى قبضة وسائل التواصل الاجتماعى، لم يعدْ ممكنا إخفاء الأزمات تحت سجادة اللياقات الدبلوماسية. صار المواطن العادى شريكا فيها منذ لحظة اندلاعها. يتلقَفها ويعبِّرُ عن موقفه ويسارع إلى نبش الحساسيات والكراهيات. فى العالم الجديد، يدور جزء أساسى من المعارك على «تويتر» و«فيسبوك» والوسائط الأخرى. هذا يصدق على الأزمة المستجدة بين كوريا الجنوبية واليابان، التى أدَّت إلى إيقاظ الذكريات المؤلمة، وهى كثيرة. يصدق أيضا على الفصل الجديد من الأزمة الهندية ــ الباكستانية، المتعلقة بالإجراءات الهندية الأخيرة فى كشمير. شياطين جديدة انضمت إلى الهدير الآسيوى. المبارزة بين الاقتصادين الأول والثانى فى العالم، وتحول شوارع هونغ كونغ قنبلة موقوتة، وامتحانا لأقوى رئيس صينى منذ أيام ماو تسى تونج.
***
لم تكن شياطين الشرق الأوسط غائبة عن الاهتمام الدولى. فأزمة الاتفاق النووى الإيرانى حاضرة فى كل اللقاءات، خصوصا بعدما أدَى احتجاز الناقلات إلى التذكير بأزمات الرهائن والأثمان المطلوبة للإفراج عنها. لكن العالم نجح فى التقاط أنفاسه، بعدما أعربت أكثر من جهة معنية بالأزمة أنها غير معنية بالانزلاق إلى حرب يتفق الجميع على أنها ستكون باهظة، ويصعب ضبط مسارحها. وتزايدت القناعة أن إيران التى يمكن أن تلجأ إلى تعكير مياه هرمز لن تصل إلى حد إغلاق المضيق، لمعرفتها أن خطوة من هذا النوع ستؤدى إلى قيام جبهة دولية واسعة ضدها، تضم أيضا الأوروبيين الذين يحاولون اليوم البحث عن مخارج من الأزمة الحالية.
قفز الشرق الأوسط مجددا إلى واجهة الاهتمامات، بعد اعتراف بنيامين نتنياهو أن إسرائيل قصفت قواعد عسكرية إيرانية فى العراق. وقال إنه أعطى أوامره للجيش بحرية التصرف لإحباط «مخططات إيران العدوانية». وذهب نتنياهو أبعد من ذلك بقوله «إن إسرائيل لن تعطى إيران أى حصانة فى أى مكان تقيم فيه قواعدها الموجهة ضد إسرائيل، سواء أكان ذلك فى العراق أم اليمن أم سوريا أم لبنان».
فاجأ إعلان نتنياهو الصريح عن استهداف البنية العسكرية الإيرانية، ومقرات لـ«الحشد الشعبى» فى العراق، عددا من المراقبين. توقع هؤلاء أن تبقى إسرائيل الغموض قائما حول دورها فى «الانفجارات الغامضة» التى وقعت على أرض العراق. ثم إن مثل هذا الإعلان يسبب إحراجا للوجود العسكرى الأمريكى فى العراق الذى يسيطر عمليا على الأجواء. والواقع أن «الحشد» كان قد حمل أميركا مسئولية ما يحدث. وفى اليوم التالى لإعلان نتنياهو، نشرت فتوى للمرجع الشيعى العراقى آية الله كاظم الحائرى، المقيم فى قم، تحرم بقاء القوات الأميركية فى العراق. وأيقظت الفتوى حديثا كان يتردَدُ فى بغداد منذ شهور، مفاده أن إيران قد تختار الردَ على العقوبات الأمريكية القاسية التى تستهدفها بمحاولة لإخراج القوات الأمريكية من العراق، سواء عبر قرار من البرلمان العراقى، إذا تيسر ذلك، أو عبر تحرشات، ولو بأسماء تنظيمات «مجهولة».
وعلى الصعيد العملى، أدَى إعلان نتنياهو إلى إدخال العراق رسميا فى دائرة الضربات المتعلقة بمحاولة إيران تأسيس بنية عسكرية ثابتة، التى كانت تقتصر على الأرض السورية أصلا. والواقع هو أن الوجود العسكرى الروسى فى سوريا أدَى إلى ضبط حدود الحرب التى تشنها إسرائيل على الوجود العسكرى الإيرانى فى سوريا، لأنه أدَى إلى ضبط الردود الإيرانية انطلاقا من الأرض السورية. وعزَز شنَ الغارات الإسرائيلية على أهداف إيرانية فى العراق الكلام الذى تردَد عن توافق أمريكى ــ روسى على قبول قيام إسرائيل بالدفاع عن أمنها، فى مواجهة ما تعده خطرا عليها، انطلاقا من سوريا والعراق.
وذهبت الأحداث أبعد من ذلك حين شنت إسرائيل غارات جديدة على أهداف فى سوريا، أدَت إلى سقوط قتلى فى صفوف عناصر «حزب الله» اللبنانى، واتبعتها بإرسال طائرتين مسيرتين سقطتا فى الضاحية الجنوبية لبيروت. وهكذا، تمَ توسيع مسرح الاشتباك من سوريا إلى لبنان، بعد توسيعه من سوريا إلى العراق.
يطرح السلوك الإسرائيلى الحالى أسئلة كثيرة، بينها: هل يعتبر نتنياهو أن الوقت الحالى هو الوقت الأكثر ملاءمة لخوض مواجهة واسعة مع إيران وحلفائها فى الدول التى تحاول تأسيس بنية عسكرية دائمة فيها؟ وهل يعتبر أن الفترة الفاصلة عن الانتخابات الأمريكية هى الوقت الملائم لإطلاق مواجهة من هذا النوع؟ وهل يعتقد نتنياهو أن الأدوار فى المنطقة ترسم بالنار لا بالمفاوضات؟ وهل يتخوف من أن تشهد المنطقة فى الفترة المقبلة انسحابا أمريكيا من العراق وسوريا، لذلك يفضل توسيع المواجهة قبل هذا الانسحاب؟
تضاف إلى ذلك أسئلة أخرى: إلى متى تستطيع إيران تلقى الضربات فى سوريا من دون أن تردَ عبر حلفائها؟ وماذا عن معركة الصورة، سواء بالنسبة إلى إيران أو «حزب الله» اللبناني؟ وإلى أى حد يستطيع الحزب احتمال تعرضه لضربات فى سوريا وتحديات فى لبنان من دون أن يردَ؟ وماذا لو أدَى رد الحزب إلى حرب واسعة؟ ماذا عن الموقف الروسي؟ وماذا عن موقف إدارة ترامب؟ وماذا عن اختلاط الحروب على مسرح المنطقة برمتها؟
واضح أن حصانة الحدود الدولية والخرائط سقطت فى الشرق الأوسط، تنتهكها السياسات والصواريخ والطائرات المسيرة من دون أى توقف عند القانون الدولى.
***
تطور آخر يعنى السوريين والأمريكيين والأتراك والأكراد والآخرين. أعلن رسميا عن ولادة «المنطقة الآمنة» فى الأراضى السورية المتاخمة لتركيا. هذا التعاون التركى ــ الأمريكى أبطل جزءا من مفاعيل صفقة حصول أنقرة على الصواريخ الروسية. ثمة من يعتقد أن عمليات القضم التى يمارسها النظام السورى حاليا هى فى جانب منها عقاب روسى لتركيا على عودتها إلى التعاون الوثيق مع واشنطن. هذه الهواجس ستحضر غدا لدى استقبال بوتين لأردوغان الذى تميَزت سياساته فى سوريا بقدر غير قليل من التخبط والمكابرة.
واضح أن واشنطن تعتبر إعادة شرق سوريا إلى دمشق شبيها بتسليمه إلى طهران. ويبرر الأمريكيون بقاءهم حاليا بالرغبة فى التأكد من عدم عودة «داعش»، وإضعاف إيران أو عرقلة شهياتها. وتتحدث تقارير أمنية غربية عن أن شياطين «داعش» لن تتأخر فى الاستيقاظ مجددا.
حروب كثيرة فى غابة الأزمات التى نسميها الشرق الأوسط، وثمة من يعتقد أن الآتى أعظم، وأن حدود الأدوار لن ترسم إلا بالنار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved