جاري المجهول الصغير

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 28 سبتمبر 2022 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

فى السنة الأولى للجائحة، حين فرضت قيود كثيرة على سكان الأردن حيث أعيش، وتعطلت حركتهم للحد من انتشار الوباء، راقبت مجىء طفل رضيع حديث الولادة إلى بيت أمام شباكى. انتقل أهله للعيش أمام بيتى وكانوا يمضون معظم وقتهم على شرفة صغيرة كانت تتيح لهم فرصة الخروج دون أن يصطدموا بقوانين منع التجول.
• • •
كنت أرى من خلف الزجاج الأم الشابة تخرج بالطفل فى الصباح الباكر وأتخيلها تحاول أن تعطى للأب دقائق نوم إضافية. تذكرت معها كيف كنت أخرج مع ابنى الأول عند خيوط الفجر الأولى إلى شرفة بيت كنا نعيش فيه حينها. كنت أجلس على الأرض وأضعه على ساقى الممدودتين بعد أن أرضعه، وأحرك ساقى برفق إلى اليمين واليسار فينام وأنام أيضا وأنا جالسة.
• • •
بعد شهور بدأت أرى ابن الجيران جالسا مع جدته وهى تتحدث معه بلغة لا أفهم كلماتها إنما كنت أفهم مضمون الكلام بسبب موسيقى صوتها ونغمة الحب الذى يخرج من فمها تجاه الحفيد. لم أعرف إن كانت جدة من طرف الأم أو الأب لكنى رأيتها تخرج به كل صباح فى الأول وهو فى حضنها ثم صارت تجلسه فى كرسى عال للأطفال. كانت الأم تخرج بعد نحو الساعة وتتحدث مع السيدة باللغة ذاتها.
• • •
بعد فترة صرت أرى الطفل يحاول أن يتحرك على الأرض، كان يدفع بنفسه على بطنه وسط تشجيع الأم والجدة والأب ورجل أظنه الجد. فى شهور حظر التجول عاشت هذه العائلة بأجيالها الثلاثة فى البيت أمامى، وكنت شاهدا مختفيا على نمو الحفيد. سمعت صوت بكائه كرضيع ثم محاولته التصفيق والكلام، وعدت معه أما يقفز قلبها فرحا مع بوادر كلمات أطفالها. من على مقعدى أمام الشباك كنت أصفق أيضا للطفل دون أن يسمعونى، كنت أرى ابتسامة فخر على وجه الأم وخطوط الحنان والرضا حول عينى الجدة. اليوم أتساءل كيف لم ينتبه أفراد العائلة إلى تلصصى؟
• • •
كنت حتى ضيفا من مكانى على حفلة عيد ميلاد الطفل الأولى، ثم الثانية بعد سنة. صار الطفل يتفوه ببعض الكلمات بلغتهم واختفى الجد والجدة من الصورة، فهمت أنهما عادا إلى بلدهما. استمرت العائلة الصغيرة بالظهور اليومى على الشرفة وقت الصباح، لكن أصواتهم كانت تختفى باقى اليوم وفهمت أنهم قد عادوا إلى حياة طبيعية ربما يعمل فيها الأم والأب خارج البيت بينما الطفل فى الحضانة.
• • •
تذكرت سنتى الأولى مع أول طفل وشعورى الدائم بأننى لست أما كفؤة ولم أعد أما عاملة شاطرة. أمضيت سنتى الأولى مع طفلى الأول أحاسب نفسى على عدم قيامى بأى دور بشكل أرضى عنه. كانت من أصعب سنوات حياتى تلك التى كانت من المفترض أن تكون أجملها. أليس كل أم فخورة بهذا اللقب، تلبسه كنيشان اعتراف عالمى بحب لا مشروط وصفات أخرى عادة يطلقها الناس على الأم؟
• • •
أعترف أننى لم أحب سنتى الأولى فى عالم الأمومة، لم أشعر بما قرأته ممن سبقن فى هذه القصة. لم أحب ساعات كنت أقضيها على الأرض فى منتصف الليل وفى الصباح الباكر أهز ساقى الاثنتين فى محاولة منى أن أهدئ من أرق الرضيع ومن قلقى. كما أننى خفت جدا من فكرة أننى مسئولة عن حياة كائن لا يتحكم بشىء، كنت أخاف أن أرتكب خطأ يدفع هو، أى الطفل، ثمنه. أرعبتنى فكرة ارتباطه بى عبر الرضاعة للبقاء على قيد الحياة.
• • •
اليوم، ومع مرور السنوات ومع الثقة التى اكتسبتها عبر تجربتى مع ثلاثة أطفال، أندم على عدم إنجابى لطفل أو اثنين إضافيين. فهمت أن الشك جزء من التجربة، على الأقل من تجربتى وجزء من تقييمى للعلاقات، علاقتى بأولادى، بزوجى، بأمى، بصديقات كنت أطلق عليهن أحكاما سواء أنجبن أم لا. راقبت الطفل الذى كبر أمام عينى من على الشرفة المقابلة وعشت من خلاله شعورا تخيلته عند أمه. رأيت حركتها البطيئة أحيانا والنشيطة أحيانا أخرى. تعلقت بطفلها من خلف شباكى وشعرت أنها صديقتى رغم أننى لم أتكلم معها قط.
• • •
فى آخر الصيف، وبعد غياب عدة أسابيع عن بيتى، سمعت صوتا من الشرفة فاقتربت من الشباك لأرى العائلة فوجدت وجوها لا أعرفها. اختفت الأم ومعها زوجها والطفل وحلت مكانهم أسرة جديدة مختلفة تماما. بدأت أراقبهم أيضا وشعرت أننى اشتقت للصغير! كيف ذهب دون أن أودعه، وهو من مسك يدى برفق وساعدنى على المشى فى طريق الشك المربك الذى بدأته مع الأمومة؟ من خلال طفل لا أعرفه أعدت قراءة علاقتى مع الأمومة وسامحت نفسى بعض الشىء على شعورى بالخوف والضيق فى سنوات أطفالى الأولى.
• • •
إلى جارى الصغير: أتمنى أن تساعد أمهات كثيرات على تقبل أنفسهن، وأتمنى أن تساعد أمك بتجاوز الخوف والتعب. شكرا أيها المجهول الصغير!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved