جايبة معاها شنطة
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 28 سبتمبر 2023 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
ماما زمانها جاية.. جاية بعد شوية جايبة لعب وحاجات، جايبة معاها شنطة.. فيها وزّة وبطّة بتقول كاك كاك كاك. كان عمري تسع سنوات عندما سمعتُ وشاهدتُ هذه الأغنية اللطيفة للمؤلّف العبقري فتحي قورة، واستمتعتُ بها جدًا حتى اللحظة التي قام فوزي بقَرص الطفل الصغير وأبكاه فأثار غضبي إشفاقًا على الصغير. فتحي قورة مؤلف عبقري وقادر على أن يخطف قلبك خطفًا بأغنية شديدة الرومانسية كما في "قلبي ومفتاحه"، وأن يزغزغ مشاعرك بدويتو شديد اللطف مثل "يا سلام على حبي وحبك"، وأن يقترب من حسّك الشعبي وينزلك من برجك العاجي في "أمانة عليك يا ليل طوّل". يقنعك بأنه سوداني في "يا حبيبي عد لي تاني"، ويوناني في "ياسو جاب واخد دبلة وبسّو"، ويلازمك وأنت تبتهج بفرحة نجاحك في "وحياة قلبي وأفراحه". وهو الموهوب القادر على أن يعدِل مزاجك ويهدئ أعصابك ويصنع يومك كما يقول المثل الإنجليزي، وهو الفنان الذي شكّل قاسمًا مشتركًا مع أسماء كبيرة مثل منير مراد وفريد الأطرش ومحمد فوزي فعشنا عُمرنا مع فنهم الأصيل وربما حتى عشنا به.
• • •
أما فيما يخصّ مقال اليوم فإن فتحي قورة هو الذي وضع يده بأغنيته "ماما زمانها جاية" على لقطة مهمة في حياتنا اليومية عندما تحدّث عما بداخل شنطة ماما. وفي الحقيقة ليس من الضروري أن تذهب ماما للسوق حتى تعود بشنطة كبيرة فيها وزة وبطّة، بل من الوارد جدًا أن تمتلئ حقيبتها في خروجاتها العادية بأشياء لا تبعد كثيرًا عن الدواجن والطيور والحيوانات الأليفة صغيرة الحجم. والذي يوهمك أن شنط النساء في هذه الأيام صارت كبيرة بسبب خروجهن إلى العمل، أستعدّ للردّ عليه بأن شنط نساء أيام زمان كانت كبيرة أيضًا رغم أن معظمهن كنّ ستات بيوت، فالقاعدة هي أنه كلما كان هناك أبناء تكبر الشنطة. وما زلت أذكر أنه كانت لأمي بل وحتى لجدّتي (والدة أبي) شنطة سوداء ضخمة بقفل نحاسي أو ذهبي كبير، كانت تتدلّى من ذراع كل منهما وليس من الكتف، فموضة الشنط التي تتأرجح من فوق الكتف هي موضة حديثة نسبيًا لم تعرفها النساء في الخمسينيات والستينيات.
• • •
يتوقّع الأبناء أن تكون في شنطة ماما كل المستلزمات التي تخطر، وأحيانًا حتى التي لا تخطر، على بال أحد. ويتوقّعون أن تكون ماما جاهزة لإسعافهم بكل ما يحتاجون إليه ولو بالصدفة. ففي شنطتها مناديل ورقية جافة ومبللّة لإزالة آثار القهوة التي لا يبدأ يومهم إلا بها، وبسبب حالة الدوخة التي تلازمهم في الساعات الأولى من الصباح تتسلّل بقع القهوة إلى ملابسهم وتتخلّل أنسجتها. وفي شنطة ماما توجد صيدلية متنقلّة تعالج الصداع والأنفلونزا والمغص والضغط المرتفع والمنخفض، واحمرار العين وآلام الظهر والمفاصل والجيوب الأنفية، وهي تحتوي على كل لوازم الإسعافات الأوليّة في حالة الجروح والإصابات الخفيفة لا قدّر الله. وفي شنطة ماما طبعًا بعض الحلوى الجاهزة في حالة وُجّه لها السؤال التالي "ما الاقيش معاكي حاجة حلوة؟ وإن كانت الأمانة تقتضي الاعتراف بأن شنط الأمهات لا تمتلئ بالحلويات والذي منه لمجرد تلبية طلبات الأبناء، لكنها تساعد كثيرًا في ترطيب أجواء الندوات أو الجلسات المملّة في العموم التي تمتدّ أحيانًا لساعات طويلة وتمتلئ بثرثرة لا معنى لها. وهنا لابد أن أذكر بكل خير الشنطة العامرة بما لذّ وطاب من الحلويات اللذيذة التي لم تكن تفارق الصديقة العزيزة والأستاذة القديرة الدكتورة آمنة نصير أثناء تزاملنا في المجلس القومي للمرأة، وهذه الحلويات هي دائمًا كثيرة إلى الحدّ الذي يمكن أن يسرّي ويرفّه على صف كامل من المشاركات والمشاركين في أي اجتماع أو مؤتمر. وفي شنطة ماما توجد أقلام زرقاء وسوداء، مع أن جيل هذه الأيام قلّما يستخدم أصابعه في الكتابة طالما أن أصابع الكومبيوتر موجودة والحمد لله، إلا أن هناك بعض الألعاب المسليّة التي لا يمكن أن تتم بدون استخدام القلم، وهذا يقتضي بالتالي أن تكون في الشنطة أچندة صغيرة لتوزيع أوراقها على أطراف اللعبة عند اللزوم. ومن الأشياء الملغزة التي لا أعرف لماذا الإصرار على أن تكون في شنطة الأم حصريًا.. مفاتيح البيت. يحدث أن يخرج جميع أفراد الأسرة في نفس التوقيت، الأم والأب والأبناء، وأنا هنا لا أتحدث عن أطفال صغار من الطبيعي ألا يحملوا معهم مفاتيح البيت، لكني أقصد الشباب الناضج الذي لا يتورّع عن توصية الأم قبل الخروج بلهجة شديدة الجدّية "ما تنسيش تاخدي معاكي مفاتيح الشقة!". طيب زمان لم تكن هناك شنطة صغيرة للرجل يمسك بها في يده أو يلّفها حول خصره، وبالتالي كان يمكن لجيب الرجل أن ينبعج إن هو وضع فيه حزمة مفاتيح البيت والسيارة والمكتب والخزنة.. إلخ، الآن توفّر هذا النوع من الشنط للرجال، لكن هيهات فشنطة الأم فيها مغناطيس لا يجذب فقط مفاتيح الزوج والأبناء، لكن يجذب أيضًا مَحَافظ نقودهم.
• • •
ثم أن الأم عليها أن تكون مستعدّة لمواجهة بعض الأسئلة الوجودية التي لا توجد إجابة مناسبة لها لأنه لم يكن هناك داع لتوجيهها من الأصل، والتي تجعلها تشعر رغم ذلك بالتقصير لأنها لم تعمل حسابها ولأن هناك شيئًا فاتها الانتباه إليه. ومن أمثلة هذا النوع من الأسئلة- سؤال "ماما ألاقي معاكي مقصّ وأحيانًا مفّك؟"، أو "فيه في شنطِتك ورق هدايا وأحيانًا شمعة عيد ميلاد؟"، أما الأسئلة الأخرى الخاصة بالمناديل الجافة والمبلّلة، وأدوات الخياطة، وإيصالات شراء الملابس والأدوات المنزلية، والكشّاف الكهربائي وشاحن الموبايل، وكارنيهات النوادي والساحل والتأمين الصحّي، وكيس نرمي فيه الزبالة.. فهذه كلها أسئلة طبيعية وغالبًا ما تكون الأم على مستوى المسئولية ومحصّنة بكل هذه الأشياء في شنطتها حتى إن هي سُئلت استجابَت.
• • •
الشنط الصغيرة أشيك مافيش كلام لكن حَملها رفاهية لا تملكها الأمهات، والاستثناء الوحيد هو في خروجات المساء والسهرة التي لا تناسبها الأحجام الكبيرة. وعدا هذا فالاحتياط واجب، وكما قلت كلما شطح خيال الأم ساعدها ذلك على تلبية احتياجات الأبناء. وهكذا وبينما كانت أسرتي على طريق سفر طويل، التفتت لي ابنتي لتسألني بثقة تامة "فيه معاكي سائل تنظيف القزاز؟"، فاعتدَلت في جلستي وأجبتها بنفس المستوى من الثقة "طبعًا فيه".