من مانويلا إلى مرسى..

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الأحد 28 أكتوبر 2012 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

أشهد أننى لم أحسد فى حياتى أحدا لا على ثروة، ولا على جاه، أو كرسى مهما كان مغريا، ولكن أجد نفسى لا تعف عن حسد بعض البشر الذين نظن جميعا أن على رأسهم بطحة، فنجدهم الأشد جرأة وبأسا دون أن يكون لهذه البطحة أى أثر على قراراتهم. حسدت أحد المبطوحين على رأسهم، وأنا أستمع إلى رواية عامل مفصول توا من شركة زراعية يملكها شقيق وزير محبوس على ذمة ثورة يناير. ومازالت تتزين كراسى شركته بعدد لا بأس به من رجال الحزب الوطنى. كان العامل يشرح كيف تم فصله من شركة «الشقيق» هو و15 عاملا آخرين من العمل.

 

وذلك كعقاب على إساءتهم للذات الرأسمالية عندما تجاسروا وقالوا إن 550 أو700 جنيه بعد 5 سنوات من العمل ظلم لا يحتمله أبناء وطن مازالت «صبحية» ثورته حاضرة. قال العامل منتصبا إنه تم فصلهم من العمل لرفضهم أن يدفع العمال من قوت يومهم تكلفة انتقالاتهم إلى الشركة، التى تقع على طريق إسكندرية الصحراوى، بينما يأتى معظم العمال من كفر الشيخ، وحوش عيسى، وأبو المطامير، ودمنهور.

 

لم أكد أنفض عن أذنى آخر كلمة قالها هذا الرجل من أنه لم يستطع أن يقبل، بعد ثورة مازالت رائحتها تفوح فى الميادين، ظلم هؤلاء المتجبرين حتى آتانى من حيث لا أحتسب صوت طبيب شاب يخفى وراء نظارته الطبية إصرارا لا حد له على استكمال إضرابه مع رفاقه، فى مستشفيات مصر كلها، حتى لو دفع مستقبله ثمنا لإنجاحه. لن أدفع كثيرا كما تتصورين، يقولها لى بتحد. ما أتحصل عليه من هذه المهنة العظيمة لا يزيد على 900 جنيه. وعندما نقدم أنا والآلاف من الأطباء استقالتنا الجماعية، ربما يفهم الناس أننا عندما نطالب برفع أجور الأطباء لا نكون أنانيين. ولكن نريد فقط تحسين ظروفنا المعيشية وهو أحد أهداف الثورة، وتحسين ظروفنا سيجعلنا لا نلهث وراء العمل فى عيادات خاصة، بل سنكون الأحرص على ألا يموت مريض قبل أن نجد له سريرا لنعالجه، أو دواء لنخفف ألمه.

 

●●●

 

عامل يتحصل على 700 جنيه بطلوع الروح، ومثله الكثيرون. وطبيب لم يزد دخله على 900 جنيه وغيره الآلاف، وثورة قامت بها الملايين، ومازال وراءها ملايين أخرى تنتظر لقمة عيش كريمة. حديث الملايين هذا ذكرنى بنصيحة مديرة برنامج العمالة فى منظمة العمل الدولية مانويلا تومى التى كانت تتحدث عن ملايين من العمال فى العالم التى انخفضت أجورهم خلال السنوات الماضية. النصيحة التى كتبتها فى مقدمة تقرير الأجور للعام الماضى وقدمتها «لواضعى السياسات» فى كل دول العالم. هى أن يرفع قادة الدول أجور العمالة، وأن يخلقوا لهم وظائف لأنه السبيل الوحيد لتحقيق النمو. وتشرح لصانع السياسات إن العدالة الاجتماعية يمكن أن تتحقق إذا ماتم الحد من عدم المساوة فى الأجور، ورفع رواتب أصحاب الأجور المنخفضة. قلت فى نفسى ولماذا اصدق أن مانويلا كانت تقصد مصر، ربما كانت تقصد بقية دول العالم دون مصر؟. إذن أتأكد بنفسى.

 

وجدت أن أرقام التقرير ذاته تكشف أن معدل نمو الحد الأدنى الحقيقى للأجر فى مصر ظل بالسالب طوال الأعوام من 2006 وحتى 2009. حيث وصل هذا المعدل إلى 14% بالسلب فى العام الأخير. وهذا يعنى أن الحد الأدنى للأجر يتناقص إذا أخذنا فى الاعتبار نسب التضخم خلال هذه الأعوام. أى أن ارتفاع الأسعار أدى إلى تأكل أى زيادة حدثت فى الأجور. أوراق جهاز التعبئة الإحصاء هى الأخرى تثبت ما ذهبت إليه مانويلا. فهى تبين أن ثلث العمالة بأجر فى مصر مازالت تحصل على أقل من 700 جنيه فى الشهر. وهو نفس الحد الأدنى الذى أعلنت عنه الحكومة ايام مبارك المخلوع. يعنى لو كان صانع السياسة فى مصر يستمع إلى نصيحة مانويلا وطبق بالفعل الحد الأدنى للأجور، بدلا من تأجيله يوما بعد يوم، لكان ثلث العاملين تحركت أجورهم لأعلى.

 

قلت لنفسى ربما الحد الأدنى للأجور منخفض، ولكن الكل سواء، وهذا يحمل بعضا من العدل. فعندما نكون كلنا فى الهم واحد، يجعلنا نرضى به. مرة أخرى لا بد من أن أتأكد بنفسى. رحت أبحث عن متوسط الأجور للعاملين فى قطاع الصحة، فوجدت أن المتوسط الأسبوعى لأجر العاملين فى مجال الصحة فى القطاع العام 325 جنيها، وفى القطاع الخاص 209 جنيها. أما متوسط أجر من يعمل فى البنوك، وشركات التأمين، وشركات السمسرة، والأوراق المالية يصل فى القطاع العام إلى 1104 أسبوعيا. وفى الخاص إلى 1354 جنيها أسبوعيا. وعندما وجدت نفسى أغوص فى قطاعات التعليم، والزراعة، وتجارة الجملة والتجزئة، والنقل وجدت أننى أفضل ألا أعلن عن حجم عدم المساواة فى الأجور بين القطاعات التى يستحوذ عليها أبناء وبنات البيوتات الراقية، وبين أجور نظرائهم من الرابضين على خط الستر، وما دون الخط، وذلك حتى لا أثير حفيظة المتشبثين بحلم العدالة الاجتماعية والذين يراودهم خياله فى منامهم.

 

قلت: ولماذا أصدق مانويلا هذه، ولا أصدق رجال الأعمال فى مصر، وهم الأقرب لى بحكم الجغرافيا؟ فهم يقولون إن تكلفة العامل المصرى كبيرة، وتزيد من تكلفة المنتج النهائى، فما بالك لو زادت أجورهم. قلت أتأكد بنفسى. فوجدت أن تكلفة العامل، طبقا لما تقوله أوراق وزارة الصناعة لتحفيز الأجانب للاستثمار فى مصر عبر اتفاقية الكويز، تكلفته هى الأكثر انخفاضا. لأنها تقل عن نصف دولار فى الساعة، بينما التركى تصل كلفته إلى 2.8 دولار فى الساعة، والتونسى تصل تكلفة كل ساعة عمل إلى 1.2 دولار.

 

●●●

 

ولكن لماذا فهمت مانويلا أن زيادة دخل أصحاب الأجور المنخفضة يزيد من القوى الشرائية، بحكم أنهم محرمون من تلبية الكثير من الاحتياجات الأساسية، وهو ما يعنى استثمارات أكثر، وإنتاجا أعلى، بينما لا يعى هذه الحقيقة البسيطة الرئيس مرسى، ومعالى رئيس الوزراء، والوزراء لدينا ؟. قلت ربما لو كانت مانويلا قد همست لهم بأنه عندما يكون 28% من العاملين فى الحكومة المصرية هم فقط من لديهم غسالة ملابس أوتوماتيك، فهذا يعنى أنه لو ارتفع دخل هؤلاء العاملين، ربما نسبة لا بأس بها من شريحة واسعة من الراغبين فى شراء غسالة قوامها 72% سوف يرغبون فى شراء غسالة من السوق المحلية. ونفس الشىء بالنسبة لأجهزة التكييف، والفيديو، والمروحة. وهناك دليل أخر ربما لو كانت قد ساقته للرئيس لما كان قد تأخر فى تطبيق الحد الأدنى والأقصى فورا على القطاعين العام والخاص. وهو أن الفرد الذى يبلغ انفاقه فى الشهر أكثر من 500 جنيه صرف على شراء الملابس فى العام الأخير 661 فى السنة، بينما لم يستطع فرد آخر (ممن ينفق أقل من 250 جنيه فى الشهر) أن يصرف فى العام كله سوى 242 جنيها على الملابس. يعنى ببساطة أن الفرد لو زاد دخله يمكن أن يضاعف إنفاقه على الملابس. وهذا يزيد من الإقبال على إنتاج مصانع الملابس فى القطاعين العام والخاص. فى ذات الوقت نجد أن هناك شرائح من المجتمع من أصحاب الدخول المرتفعة قد تشبعت بجميع احتياجاتها الأساسية. ولم تعد تمثل طلبا جديدا على السلع فى السوق المحلية. والدليل أن 100% من العاملين فى القطاع الاستثمارى المشترك لديهم دش وثلاجة وبوتاجاز وتليفزيون ملون وخلاط بينما العاملون فى الحكومة والقطاع التعاونى والقطاع الخاص تقل نسبة تملكهم لهذه السلع. وهو ما يجعل أى زيادة فى دخولهم تترجم إلى طلب على سلع جديدة.

 

يا مانويلا رجاء اهمسى فى أذن الرئيس «حن على الغلابة».

 

 

 

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved