الشريعة فى الأدراج

خالد فهمي
خالد فهمي

آخر تحديث: الأحد 28 أكتوبر 2012 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

إن دعوة السلفيين لتنظيم مليونية تحت اسم «تطبيق الشريعة» يوم الجمعة القادم تعكس رؤيتهم المبسطة للشريعة ولمشاكل تطبيقها. فالشريعة فى نظرهم مجموعة من الأحكام الفقهية قطعية الدلالة واضحة المعنى، يضمن تنفيذها خلاص المجتمع والمحافظة على هويته النقية. وتكمن مشكلة تطبيق الشريعة فى نظرهم فى غياب الإرادة السياسية لدى خصومهم، فالعلمانيون لا أمل فيهم إذ إنهم مفتونون بقوانين الغرب لا يبغون لها بديلا. أما الإخوان فقد خذلوا الناخبين الذين وهبوهم أصواتهم لتطبيق الشريعة ثم تقاعسوا عن تنفيذ هذا المطلب المقدس نظرا لحسابات سياسية ونزولا على مواءمات انتخابية مع العلمانيين والليبراليين واليساريين.

 

الأمر إذن يحتاج إلى حشد الجماهير والانصياع لإرادة الشعب الذى لا يريد سوى تطبيق شرع الله. فعندما تتضح رغبة الملايين سوف تجبر الحكومة على اتخاذ بعض الإجراءات البسيطة حتى تطبق الشريعة. فالسلفيون، ومعهم قطاع كبير من الإسلاميين، لديهم اقتناع عميق أن القوانين المستقاة من الشريعة قد صيغت بالفعل، وأنه منذ رئاسة صوفى أبو طالب لمجلس الشعب فى أوائل الثمانينيات ومجلس الشعب لديه نصوص هذه القوانين، ولكن بسبب غياب الإرادة السياسية ظلت هذه القوانين حبيسة الأدراج وامتنعت الحكومات المتتالية عن إخراجها وتطبيقها. أما الآن فقد حان الأوان لكى ترى هذه القوانين الشرعية النور وما على الحكومة سوى فتح الأدراج وربما إجراء بعض التنقيحات البسيطة على هذه النصوص، وعندها لن يبق للعلمانيين أو الإخوان ذريعة لعدم تطبيق شرع الله.

 

ولكن هذه الرؤية المبسطة تغفل إمكانية وجود أسباب أخرى لعدم تطبيق الشريعة غير هذا السبب الأخلاقى، أى انعدام الإرادة السياسية والتقاعس عن تنفيذ المهمة المقدسة. فالشريعة، أحكاما ومبادئ، ليست بهذه البساطة وذلك التسطيح الذى يتخيله السلفيون، وأيا كانت تعريفاتنا لها فإن تطبيقها ليس باليسر والسهولة التى يظنها السلفيون والكثير من الإسلاميين. ونظرة سريعة لبعض لحظات التاريخ الإسلامى قد تفيد فى توضيح المقصود بالشريعة وفى إلقاء الضوء على محاولات مجتمعات إسلامية عديدة فى تطبيقها على مدار أربعة عشر قرنا.

 

●●●

 

يذكر أن الخليفة العباسى المنصور استدعى الإمام مالك وقال له: لقد كثرت الاختلافات والاجتهادات المنبثقة من الدين الواحد حتى خشى على تشتت الأمة، وطلب منه جمع كل هذه الأقوال فى كتاب واحد، وفعلا كتب مالك كتاب «الموطأ» جمعا بين مختلف الأقوال. فأعجب به المنصور أيما إعجاب حتى أراد أن يكون القانون الملزم لكل الأمة الإسلامية. الإمام مالك فزع وهاله الأمر وقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين! فقد تفرق أصحاب رسول الله فى الأمصار ومعهم علم كثير وهذا ما بلغنى أنا فدع الناس وما يختارون.

 

حسب رؤية السلفيين للشريعة واختزالهم لتطبيقها فى التقنين سيقف الإمام مالك متهما بنفس التهم التى يرمون بها خصومهم، أى التواطؤ والتخاذل والتقاعس. ولكن تلك القصة توضح لنا أن هناك أسبابا وجيهة جدا للتشكيك فى الفكرة القائلة بأن أفضل وسيلة لتطبيق الشريعة هى سن قوانين ملزمة موحدة، فالإمام مالك رأى أن القوانين قد تصيب الفقه فى مقتل، فكيف لأهل مصر أن يكون لهم نفس القوانين التى تحكم أهل العراق، وكيف لأهل الشام أن يحتكموا لنفس القوانين التى تحكم أهل اليمن؟ فالفقه يزدهر بتنوعه وتعدد مدارسه، وازدهار الشريعة يكمن فى إعطاء الفرصة لهذا التنوع وذلك التعدد، أما القوانين فبطبيعتها تؤطر الفقه وتقضى على تنوعه وتعدده.

 

●●●

 

بجانب ولعهم بالتقنين يتخذ السلفيون من السلف الصالح قدوة ويستقون أفكارهم عن الشريعة من محاولة هؤلاء السلف التفاعل مع النص القرآنى واستلهام السنة النبوية. ولكن بتركيزهم على السلف الصالح دون سواهم وبالنظر للفترة التى عاشوا فيها، أى فترة الرسول والخلفاء الراشدين، كعصر ذهبى يجب العمل على إحيائه يغفل السلفيون إمكانية ألا يكون الفقه قد ولد كاملا شاملا فى هذه الفترة القصيرة بل إنه استغرق قرونا عدة حتى يتبلور بالشكل المبهر الذى وصلنا، وأن فترة السلف الصالح بالتالى قد لا تكون وحدها الجديرة بالدراسة والتأمل، بل قد تكون معبرة عن محاولات بدائية للإجابة على أسئلة آنية أكثر من تعبيرها عن قواعد فقهية ناضجة وكاملة التبلور.

 

كمثال على ذلك، يذكر وكيع (متوفى سنة 306 هـ / 918 م) فى كتابه «أخبار القضاة»، وهو من أهم المصادر التى وصلتنا عن تاريخ القضاء الشرعى فى أوائل عهده، يذكر قصة القاضى كعب بن سور الأزدى الذى عينه عمر بن الخطاب قاضيا على البصرة عام 14 من الهجرة. يقول وكيع إن رجلا اشترى من رجل أرضا، فوجدها صخرة، فاختصما إلى كعب بن سور؛ فقال كعب: أرأيت لو وجدتها ذهبا أكنت تردها ? قال: لا؛ قال: فهى لك. هذه الإجابة التى قدمها كعب والتى لم يبد عمر بن الخطاب تحفظا عليها لا تعتبر إجابة صحيحة حسب قواعد الفقه كما تبلور فى القرون اللاحقة، إذ إن أغلب المدارس الفقهية السنية تعتبر أنه فى هذه الحالة كان يجب على القاضى أن يحكم للمشترى بأحقيته فى تعويض. الأمر هنا لا يتعلق بخطأ كعب بن سور، وهو المعين من قبل عمر بن الخطاب، بقدر ما هو يتعلق بوضع الفقه فى فترة السلف الصالح، فالفقه فى هذه الفترة المتقدمة من التاريخ الإسلامى كان لا يزال فى طور التشكيل ولم يكن قد اكتمل بعد، وبالتالى فحصر رؤيتنا لتلك الفترة واتخاذها دون سواها كمثال يجب أن يحتذى قد لا تكون أفضل وسيلة لفهمنا ماهية الشريعة.

 

●●●

 

كما يتغاضى السلفيون عن إمكانية أن تكون لمجتمعات إسلامية لاحقة، كالعباسيين أو البويهيين أو العثمانيين، إسهامات فى تطبيق الشريعة جديرة بالتأمل بل حتى بالاتباع. فمن خلال دراستى على مدار الخمسة عشر عاما الماضية لتاريخ تطبيق الشريعة فى الدولة العثمانية وصلت لنتيجة مؤداها أن هناك الكثير الذى يمكن أن نتعلمه من العثمانيين فى محاولتنا تطبيق الشريعة. فمن ناحية ذهب العثمانيون لأبعد من أى دولة إسلامية سابقة فى مجال التقنين، الأمر الذى سمح لأهم سلاطينهم، السلطان سليمان (حكم من سنة 1520 إلى 1566) بأن يلقب بالـ«قانونى»، وذلك لأنه أصدر العديد من القوانين الذى سد بها ما استعصى على الفقه التعامل معه، كقوانين تجرم تزوير العملة والتزوير فى أوراق الدولة الرسمية وهى مواضيع لم يكن الفقه قد تناولها سابقا. ومن ناحية أخرى، وفى مجال القضاء الشرعى، نجح العثمانيون فى تنظيم عمل المحاكم الشرعية بشكل فاق كل أنظمة الحكم الإسلامية السابقة وهو الأمر الذى نجد له أثرا فى مئات الآلاف من سجلات تلك المحاكم التى تزخر بها دور الوثائق العديدة، ومن أهمها دار الوثائق المصرية. ومن أهم ما يلفت النظر فى سجلات هذه المحاكم هو اشتمالها على الكثير مما نحتار اليوم فيه مثل قضايا الحرابة وقطع الطريق، والخلع والنفقة والطلاق، والوقف، والمزارعة والبيوع والرهن وغيرها من الممارسات الاقتصادية.

 

●●●

 

كما يغفل السلفيون لطبيعة عمل قضاء المظالم على مدار الأربعة عشر قرنا من التاريخ الإسلامى، وهو نظام قضائى مواز للقضاء الشرعى، ازدهر فى العصر المملوكى ثم فى الدولة العثمانية ووصل لذروته فى مصر فى القرن التاسع عشر. وكان هذا القضاء مبنيا على مبادئ السياسة الشرعية التى وضع قواعدها ابن تيمية وابن القيم الجوزية والتى سمحت للأنظمة السياسية المختلفة التغلب على القواعد الفقهية الصارمة فى إقامة البينة الشرعية خاصة فى قضايا الحدود. ويتضح من سجلات هذا النظام القضائى المعقد التى تحفل بها دار الوثائق القومية خطأ الاعتقاد الشائع أن ما كان يطبق فى مصر قبل التحول إلى المحاكم الأهلية الحديثة كان «الشريعة»، فالذى كان مطبقا لم يكن الشريعة فقط، بل الشريعة مضافا إليها جزء غير بسيط من قضاء المظالم.

 

●●●

 

إن نماذج تطبيق الشريعة على مدار التاريخ الإسلامى الطويل نماذج كثيرة وملهمة، نستطيع أن نتعلم منها الكثير. فنحن لسنا أول من حاول تطبيق الشريعة وقد سبقتنا فى هذا الجهد مجتمعات عديدة لا تقل عنا تقوى أو غيرة على الشريعة. كما يخطئ السلفيون حين يحصرون نظرتهم فى فترة السلف الصالح وحدها، فبين السلف الصالح وبيننا أربعة عشر قرنا من الإبداع الفقهى والتجديد القضائى والابتكار التشريعى الذى لم يكن أبدا حبيس الأدراج والذى يجدر بنا دراسته.

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved