نصف الحقيقة الغائب فى العلاقة بين الدين والسياسة

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الثلاثاء 28 أكتوبر 2014 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

فى تناوله لقضية العلاقة بين الدين والسياسة (جريدة الشروق 6/10/2014)، لمس الأستاذ فهمى هويدى، فى رأيى، نصف الحقيقة، ولم يحط بها كلها. إنه محق تماما فى قوله «إن الدين يوفر طاقة إيمانية قوية، يمكن استخدامها فى النهوض والتقدم، كما يمكن توظيفها فى نقيض ذلك تماما». كما أنه محق أيضا فى قوله «إن المشكلة التى تترتب على الاستخدام السلبى للدين ينبغى أن تنسب إلى الطرف الذى يسىء الاستخدام وليس للتعاليم». الجزء الغائب من الحقيقة، فى رأيى، يتعلق بالاعتراف بمسئولية العوامل الاجتماعية عن توظيف هذه الطاقة الايمانية فى هذا الاتجاه أو ذاك، أى عما إذا كان الدين يستخدم استخداما ايجابيا أو سلبيا.

هذا الاعتراف بمسئولية العوامل الاجتماعية يحمينا من الوقوع فى عدة أخطاء، من بينها الظن بأن توجيه الطاقة الايمانية فى هذا الاتجاه أو ذاك، يتوقف على مدى كفاءة الدعاة والواعظين، وقدرتهم على الإقناع، أو حتى مدى إخلاصهم، لنفرض أن لديك داعية دينيا مخلصا لدينه ووطنه، ولديه أفكار نيرة عن التقدم والنهضة، راح يخاطب مجموعة من الناس الجوعى والجهلة، أفسد الجوع والجهل أخلاقهم، فخضعوا لتأثير دعاة آخرين من نوع مختلف تماما، لديهم أغراض أنانية، ولا يهدفون إلى تقدم أو نهضة، وإنما يتوقون إلى السلطة والزعامة، أو إلى مزيد من الثراء والجاه، ويستخدمون الخطاب الدينى لتحقيق هذه الاغراض الانانية، وقد يوزعون الأموال والرشاوى لكسب الأصوات فى الانتخابات. أى أمل يمكن أن يرجى للمخلصين من الدعاة فى تحقيق هدفهم النبيل، أى فى توجيه الطاقة الايمانية نحو تحقيق تقدم الأمة ونهضتها؟

النجاح أو الفشل فى تحقيق التقدم والنهضة لا يتوقف فقط على وقوف الجماهير معك أو ضدك، (سواء كانت مدفوعة بطاقة ايمانية أو بغيرها)، بل يتطلب أيضا استعدادا كافيا من جانب الجماهير للتعاطف مع التفسير الايجابى للخطاب الدينى ونفورا كافيا من جانبهم من الاستخدام السلبى لهذا الخطاب وهذا هو ما أقصده بدور «العوامل الاجتماعية» فى توجيه الطاقة الايمانية فى هذا الاستخدام أو ذاك. نحن نعرف جيدا أن التاريخ الإسلامى ملىء بالأمثلة على كلا النوعين من استخدام الطاقة الايمانية، أو من استخدام الخطاب الدينى، فقد استخدمت هذه الطاقة وهذا الخطاب فى العهود المختلفة لصالح النهضة وضدها، فأقام المسلمون حضارة رائعة عندما استخدمت الطاقة الايمانية استخداما ايجابيا، ودخلت حضارتهم فى مرحلة أفول وانحطاط عندما استخدم الخطاب الدينى استخداما سيئا. والسبب فى هذا وذاك لا يعود إلى طبيعة النصوص الدينية بل إلى التفسير الذى يعطى لها، أى إلى طبيعة الخطاب الدينى السائد، وهذا يتوقف بدوره على الاستعداد النفسى لدى الجماهير لقبول بعض التفسيرات دون غيرها.

•••

تصادف أننى، فى الأسبوع نفسه الذى قرأت فيه مقال الأستاذ هويدى «عن الدين والسياسة»، قرأت من جديد أجزاء من كتاب المفكر الراحل الدكتور نصر حامد أبوزيد (نقد الخطاب الدينى، دار سينا، 1992). والرجلان يتخذان موقفين متضادين من علاقة الدين بالسياسة، بل واشتبكا فى وقت ما فى عراك فكرى على صفحات الجرائد. الذى أدهشنى اننى وجدت أنه من الممكن توجيه انتقاد إلى كتاب د. نصر أبوزيد، مماثل لما وجهته لمقال الأستاذ هويدى، رغم الاختلاف الشديد بين موقفيهما، ذلك ان الدكتور نصر أيضا، قال فى هذا الكتاب نصف الحقيقة وليس الحقيقة كلها.

يقول د. أبوزيد ان للخطاب الدينى سمات خمس (يسميها آليات) هى: التوحيد بين الفكر والدين، ورد الظواهر إلى مبدأ واحد، والاعتماد على سلطة التراث والسلف، واليقين الدينى والحسم الفكرى، وإهدار البعد التاريخى. ويقصد بهذه السمات على التوالى: (1) إلغاء المسافة بين الذات والموضوع (أو بعبارة أخرى التوحيد بين النصوص وتفسير هذه النصوص). (2) إلغاء القوانين الطبيعية والاجتماعية ومصادرة أية معرفة لا سند لها من الخطاب الدينى. (3) المبالغة فى تقديس ما قاله أو فعله القدماء واعتباره جزءا من الدين. (4) ادعاء امتلاك الحقيقة الشاملة والمطلقة ومن ثم المسارعة بتجهيل الخصوم أحيانا وتكفيرهم أحيانا أخرى. (5) تصدر التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضى وهمومه، وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضى للتطبيق على الحاضر.

أقول إن هذا النقد من جانب د.نصر حامد أبوزيد للخطاب الدينى يلمس نصف الحقيقة فقط لأنه وإن كان ينطبق الخطاب الدينى الراهن فى بلادنا فهو لا ينطبق على الخطاب الدينى على مر العصور. ففى فترات ازدهار الحضارة الإسلامية كانت هذه السمات أقل وضوحا أو غائبة، إذ كان المفكر أو الداعية أكثر استعدادا للاعتراف بأنه يقدم تفسيرا من عدة تفسيرات ممكنة للنص الواحد (رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب)، ولم يكن الاعتقاد بالإرادة الإلهية وراء كل الظواهر يفهم بمعنى يتعارض مع الاعتراف بالقوانين الطبيعية والاجتماعية والبحث عنها واكتشافها، وكان الكتاب والمفكرون الإسلاميون أكثر جرأة فى التعامل مع السلف وأكثر تواضعا، كما كانوا أكثر استعدادا للاجتهاد وإقبالا عليه للوصول إلى حلول جديدة لما يجد من مشكلات.

الإسلام واحد ولكن الخطاب الدينى متعدد، ومن صور الخطاب الدينى ما يخدم النهضة ومنه ما يضر بها، وللطاقة الايمانية قوة لا يمكن انكارها، ولكن من الممكن استخدامها لخدمة الحق أو الباطل. واتجاه الخطاب الدينى والطاقة الايمانية فى الاتجاه المنشود لا يتوقف على ذكاء الداعية أو بلاغته وشطارته، بل على مدى استعداد الناس نفسيا وعقليا، للسير فى هذا الاتجاه أو عكسه. الإصلاح الدينى غير ممكن إذن بغير إصلاح اقتصادى واجتماعى. وهذا فى رأيى هو نصف الحقيقة الغائب فى حديث كثيرين من المؤيدين للخطاب الدينى الراهن ومعارضيه على السواء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved